سيادة القانون أهم ركائز الدولة والمعبّر عن ضمانة حيويتها، وهذا ما تحاول حكومة بغداد ترجمته إلى واقع رغم العوائق الكثيرة وعلى رأسها تدخلات الملالي، وارتباك القوى الغربية في التعامل مع الميليشيا وآيديولوجيتها وشبكاتها وقوتها بما يفوق الارتباك في لحظة الربيع العربي، والتعامل مع التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية بحكم أن الأخيرة أجبرت منطق سيادة القانون ومصلحة الدولة الغربية أن يخرج عن حياده البارد حين تم استهداف عواصم غربية بالإرهاب، لكن تراخيه اليوم في الوقوف تجاه ذات الإرهاب الميليشياوي برافعة طائفية، لأنه مرتبط بتطرف دولة الملالي الذي يرسل شعارات الوعد والوعيد للغرب وصواريخه، واستهدافه لدول المنطقة في ازدواجية تبدو غير محفّزة للمجتمع الدولي على التدخل خارج أقواس الإدانة كما رأينا في التعامل مع ميليشيا الحوثي أو الميليشيات بالمئات في دول التوتر، لكن العراق حاول أن يخرج من هذا السائد في التصالح مع منطق المتطرف وفرض ذلك كواقع بالقوة حين اعتقل قاسم مصلح قائد اللواء الثالث عشر بقوات «الحشد الشعبي» أو ما يعرف بـ«لواء الطفوف» والمدان بعدة اغتيالات بشعة وترويع الآمنين والنشطاء ضد التدخلات الفجّة من دولة الملالي.
جراحات العراق الدامية التي جزء منها مرتبط بحالة الاستعجال والإهمال والارتباك في المقاربة الغربية منذ لحظة سقوط نظام البعث، بحاجة إلى مراجعات نقدية ومساءلات طويلة حول المقاربة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في طرح مفهوم الدولة الشكلانية والتعامل مع مناطق التوتر عبر فرض الأمر الواقع وإطالة أمد الأزمة، ومحاولة الخروج بأقل قدر من الخسائر ولو بتوريث كوارث تحتاج إلى عقود، أو ما يمكن أن أصفه بـ«متلازمة أفغانستان» الذي تشبه العودة الأبدية لحالة ما قبل الدولة.
المجتمع الدولي بمنظماته الكبرى يعاني من إشكالية كبرى في قراءة حالة العنف المنظم، ويخطئ في توصيفه على أنه نزاع سياسي أو حرب أهلية. عنف التنظيمات والميليشيات الآيديولوجية بشقيها السني والشيعي من «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما إلى الحوثيين، هو عنف أقليات عقائدية لا يمكن أن تمارس الخطاب السياسي بشكل مراوغ وبراغماتي، لكنها تنجح لكونها مسنودة بصمت الأكثرية غير المسيسة، التي تعتقد أن إدانة العنف خيانة للذات. من جهة أخرى دخلت على الخط مجموعات منتفعة من العنف عبر استغلاله سياسياً، سواء في تضخيم المسألة، أو تحويلها إلى صراع أممي، وهنا تدخل على الخط إشكالية التقاطع مع الخارج؛ سواء كان استخبارات ودولاً وكيانات مركزية وجماعات مسلحة عابرة للقارات، كما رأينا في الكوادر الإيرانية وأخرى تابعة لـ«حزب الله» تقوم بتدريب ميليشيا الحوثيين على زرع الألغام، وتهريب الأسلحة، وإعادة تصنيع الصواريخ محلياً، إضافة إلى تكوين اقتصادات «الميليشيا» عبر النهب والسلب وبيع المساعدات الإنسانية، وهي ممارسات موثقة يعلمها كل من يتابع الملف اليمني عن كثب.
ما تفعله دولة الملالي بطهران اليوم في المنطقة بميليشياتها وشبكاتها لا يعبر عن تصدير للثورة فقط، وإنما تأسيس عقيدة عسكرية جديدة لتعميم نماذج دول الميليشيا في العواصم العربية استنساخاً لتلك التجربة التي شهدنا ولادتها وتضخمها واختطافها لمنطق الدولة في لبنان، والتي بدأت مع تجربة «حزب الله» الابن المدلل وصولاً إلى الأداة المفعلة عبر تبني ميليشيا الحوثي واستهدافه للأمن العالمي، هذا التبني الإيراني لأجنة الميليشيا أجهز على الحياة السياسية في المنطقة، رغم الفرص الكثيرة التي منحها وتمنحها دول الاعتدال لإعادة الأمل من زاوية الشراكات الاقتصادية وتقديم لغة الحوار والتفاوض، وصولاً إلى الاستثمار في مناطق متعثرة في القارة الأفريقية كما شاهدنا في الكلمة التي ألقاها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورؤيته أن جزءاً من مشروع إصلاحات المنطقة وتأهيلها لمستقبل أفضل لا بد أن يمر عبر القارة السمراء بما تملكه من إمكانات وموارد وتحتاجه من شراكات على طريقة «ما ينفع الناس يمكث في الأرض».
في مقابل منطقة تعجّ بالميليشيات والاغتيال والدم تتمسك دول الاعتدال في مقدمتها السعودية رغم كل التشغيب بمنطق الدولة واحترام السيادة وقضية الاستقرار، محذرة أكثر من مرة من مغبة التساهل مع السلوك الإيراني الذي يدمر المنطقة، ويؤسس ليس للثورة فحسب بل لحالة «عسكرة» شاملة، يتم التصالح معها بشكل براغماتي ضيق من معسكرين؛ معسكر الأصوات الناقمة على الإدارة الأميركية السابقة في أميركا والتي تضغط على إدارة بايدن لخلق تفاوض هش، ومعسكر الباحثين عن فرص اقتصادية ولو على حساب أمن المنطقة من بعض الأجنحة في الدول الأوروبية التي تسعى إلى الانتعاش الاقتصادي ولو عبر التصالح مع تلك العقيدة العسكرية، وغض النظر عن جرائم إيران ضد شعبها ودول المنطقة، والتلكؤ في كل حدث سياسي يمس الخليج بشعارات تتصل بحقوق المرأة والإنسان في تناقضات بدأ الوعي والمناعة ضدها في تزايد في مجتمعات دول المنطقة.
تستلزم عسكرة المنطقة ومحاولة التصالح مع الميليشيا إعادة ترسيم أمن الخليج كأولوية قصوى، وتعميم رؤيته للمستقبل، والتعاون مع العقلاء في العالم لدعم مشروع الاستقرار المؤسس على أمن الأوطان حجر الأساس في رفاهية البشرية.