أسست ثورة النفط الصخري لوضع جديد في أسواق الطاقة بشكل عام، وأسواق النفط بشكل خاص. ومن عجائب القدر أن القوانين البيئية حاربت الفحم، أكثر مصادر الطاقة تلويثاً للبيئة، ولم تنجح، إلا أن ثورة الصخري جاءت بكميات هائلة من الغاز الطبيعي الرخيص، فأزاح الفحم من عرشه. ما لم يفهمه متطرفو التغير المناخي، أن محاربة "التكسير المائي" سابقاً، ثم محاربة الغاز الآن، تعني بالضرورة عودة الفحم، خصوصاً في ظل عدم وجود مشاريع جديدة في الطاقة النووية! ثم جاءت "بيتكوين" واستهلاكها الضخم للطاقة. وكان الحل لتخفيف أثرها البيئي، هو استخدام الغاز الذي يحرق في حقول الصخري بسبب عدم بناء شبكة لنقله إلى الأسواق!
وقلت إنها "ثورة"، لأنها، كما ذكرت في مقالات سابقة، قلبت موازين أسواق الطاقة رأساً على عقب، تماماً كما تفعل الثورات. فقد رفعت الإنتاج الأميركي بعد أن كان في اتجاه هبوطي لسنوات طويلة. وخفضت واردات الطاقة بدلاً من الزيادة التي كانت متوقعة سابقاً. وحولت الولايات المتحدة من مستورد كبير للغاز المسال إلى مصدّر أساسي له.
وكانت الزيادة في إنتاج النفط والغاز تاريخية بكل المقاييس، لدرجة أن الزيادة في إنتاج النفط فقط أكبر من صادرات الإمارات والكويت من النفط معاً. وقفزت بإنتاج الولايات المتحدة لتجعلها أكبر منتج للنفط في العالم. ودراسة هذه الظاهرة مهمة من النواحي الاقتصادية والسياسية والمالية والاجتماعية والقانونية، خصوصاً في ظل الجهل الشديد بالموضوع في الدول المنتجة للنفط. ويدل على ذلك سياسات "أوبك" بين عامي 2010 و2016، وعدد لا بأس به المقالات المنشورة في الصحف الخليجية التي لا تمت للواقع بصلة، لدرجة أن بعضهم كتب عن الصخر النفطي ظاناً أنه النفط الصخري، وإدارة التحرير لا علم لها بالاثنين!
الواقع أن الزيادة في النفط الصخري لم تؤثر مباشرة في النفط الخليجي بين عامي 2010 و2015 لسببين، الأول وجود حظر على تصدير النفط الأميركي بقرار رئاسي منذ عام 1974، ورفع الرئيس الأميركي باراك أوباما الحظر في نهاية 2015، بعد زيادة إنتاج النفط الأميركي بشكل كبير وارتفاع الفروق السعرية بين الأسواق الأميركية والأسواق الدولية إلى نحو 20 دولاراً للبرميل. والثاني أن نوعية النفط المستورد من دول الخليج لا تنافس النفط الصخري، لأنهما من نوعيتين مختلفتين تماماً.
إلا أن الأمور اختلفت عندما سمح الرئيس أوباما بتصدير النفط الخام، إذ بدأ النفط الأميركي الخفيف الحلو ينافس النفط الخليجي في أسواقه التي ظنت أنها في مأمن. عندها بدأ التنافس المباشر، ليس مع النفط الخليجي فقط، ولكن حتى مع النفط الروسي وغيره.
وعندما انخفضت الأسعار في 2015، انخفض إنتاج النفط الأميركي بنحو مليون برميل يومياً، ولكنه ما لبث أن عاد أقوى من ذي قبل، وارتفع الإنتاج بعدها بشكل كبير. ما اضطر "أوبك+"، منذ 2016، إلى تخفيض الإنتاج. وأوضحت تلك التجارب أن دول "أوبك" لم تع حيثيات النفط الصخري حتى عام 2016. بعبارة أخرى، ما زلنا ندفع ثمن تجاهل "أوبك" للنفط الصخري بين عامي 2010 و2016. وأوضحت في مقال سابق أموراً عدة، لم تكن معروفة لكثيرين وقتها، تتعلق بالتحوط وقوانين هيئة أسواق المال، وقوانين الإفلاس.
ثم جاء الخلاف الروسي - السعودي في بداية مارس (آذار) 2020، الذي نتجت منه زيادة الدول الأعضاء للإنتاج وانهيار الأسعار. إلا أن دول "أوبك+" ما لبثت أن اجتمعت في أبريل (نيسان) وقررت تخفيض الإنتاج بمقدار 9.7 مليون برميل يومياُ ابتداء من مايو (أيار). إلا أن أثر فيروس كورونا خفض الطلب على النفط بشكل كبير. ما أسهم في انهيار الأسعار. ثم تحولت أسعار نفط غرب تكساس إلى السالب في 20 أبريل 2020. وعلى إثر ذلك انخفض إنتاج النفط الأميركي بشكل كبير بعد إغلاق عدد كبير من الآبار تجنباً للبيع بخسارة. وهنا، لا بد من التنويه أن التحليلات الاقتصادية تشير إلى أن أسعار النفط كانت ستنخفض إلى المستويات التي انخفضت إليها بسبب كورونا على كل الحالات، حتى من دون الخلاف الروسي - السعودي. ويمكن القول إن الخلاف سرّع الانخفاض، ولكن عمق الانخفاض كان سيحصل على كل حال.
مستقبل النفط الصخري
ما سبق كان مقدمة لا بد منها، لأن ارتفاع أسعار النفط في الأشهر الماضية أعاد الحديث عن مستقبل النفط الصخري. ومع اقتراب أسعار خام غرب تكساس من 70 دولاراً للبرميل، عادت التساؤلات من جديد، هل سيتحرك منتجو النفط الصخري، ويحققون قفزة كبيرة في الإنتاح، كما في الماضي، وفي عامي 2016 و2017؟
سيكون هناك زيادة في الإنتاج، ولكن لن يعود الإنتاج إلى ما كان عليه في السابق، في هذا العام، إلا أن الإنتاج سيستمر في الزيادة، وسيتجاوز المستويات السابقة في ما بعد. إلا أن الطبيعة المتقلبة لأسواق النفط تعني أن إنتاج النفط الأميركي سيمر بذروات عدة.
وسبب كون الزيادة محدودة حالياً، هو أن تجربة الزيادة في عامي 2016 و2017 لن تتكرر لأسباب عدة، أولها، أن الشركات كانت تحفر في كل مكان حتى توصلت إلى المركز ذي الإنتاجية العالية، فزادت الإنتاجية وانخفضت التكاليف. الآن، لا يوجد مركز آخر ينتقلون إليه، ومن ثم فإن الإنتاجية لن تزيد والتكاليف لن تنخفض. وثانيها، أن التمويل كان متوفراً في ظل ظروف ائتمان سهلة وتوقعات مشرقة بشأن أسواق النفط الأميركي. ولكن الحقيقة أن توسيع أسواق النفط الأميركية عالمياً منذ نهاية عام 2018، كان على حساب النفط الإيراني بعد أن أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب فرض العقوبات على إيران، وعلى حساب النفط الليبي بعد إغلاق الموانئ. الآن، النفط الإيراني في الأسواق بسبب عدم رغبة الرئيس الأميركي جو بايدن تطبيق عقوبات ترمب. ويتوقع المحللون أن تزيد إيران صادراتها بعد رفع العقوبات، التي يتوقعون أن تحصل في أي وقت الآن (أنا شخصياً غير مقتنع بهذا). أما النفط الليبي فقد عاد بقوة.
المشكلة الأخرى هي التمويل. هناك صعوبة كبيرة في تمويل المشاريع الجديدة أو أي توسيع في الإنتاج. وتوضح مشاريع الاندماج أو الشركات التي تم شراؤها أن ليس هناك أي ميزة سعرية. ففي الماضي، كان يتم شراء الشركات أو اندماجها بأسعار أعلى من قيمتها السوقية بحوالى 20 في المئة إلى 45 في المئة. هذه الزيادات تلاشت تماماً.
وعمليات الاكتتاب لم تعد خياراً، لأن السوق ستقيم هذه الشركات بأقل من قيمتها، ومن ثم فإنها لن تحقق أي أموال إضافية لتمويل عملياتها من الاكتتاب. أما البنوك فإنها إما وضعت شروطاً صعبة للإقراض، أو أنها ترفض الإقراض في الفترة الحالية، أو أنها لا تريد تمويل عمليات الوقود الأحفوري إطلاقاً.
أضف إلى ذلك، ردة فعل المستثمرين على "إكسون موبيل" و"شيفرون" و"توتال"، إذ طالبوا هذه الشركات بتحسين طرق استثماراتها لتحقيق عوائد أعلى للمستثمرين في وقت يتم فيه تخفيض انبعاثات الكربون والتحول للطاقة المتجددة. ثورة المستثمرين في الشركات الكبيرة أخافت المستثمرين الآخرين من الاستثمار في شركات الصخري، على الرغم من وجود فرص كبيرة فيها.
ولكن سعر النفط 70 دولارا للبرميل؟
المشكلة التي وقعت فيها أغلب شركات الصخري، هي أنه مع تجاوز أسعار النفط 40 دولاراً، قامت بعمليات تحوط تحسباً لانخفاض الأسعار. عمليات التحوط هذه أنواع، منها لا يحقق للشركة أي زيادة في الإيرادات من ارتفاع الأسعار. ومنها يحقق زيادة في الإيرادات، ولكن ليست كبيرة لأن عليها دفع تكاليف عمليات التحوط.
بعبارة أخرى، في ظل غياب كل وسائل التمويل المعهودة، فإن تمويل عمليات جديدة من ارتفاع الإيرادات بسبب زيادة الأسعار ستكون محدودة على كل الحالات، بسبب محدودية الفائدة من ارتفاع الأسعار حالياً.
ولكن الأمر سيختلف في العام المقبل وما بعده، إذا ما بقيت أسعار النفط مرتفعة. فشركات الصخري ستكون قد تحررت من قيود عقود التحوط الحالية، وأي عمليات تحوط جديدة ستكون بأسعار أعلى. ارتفاع أرباح الشركات وضمان تدفقات مالية بأسعار مرتفعة بسبب عمليات التحوط الجديدة سيشجعان المستثمرين والبنوك على العودة إلى الاستثمار في قطاع النفط الصخري. وستكون هناك فرص كبيرة، إذا ما قررت شركات النفط الكبرى بيع أصولها في مناطق الصخري، للامتثال لطلبات مجالس الإدارة للتخفيف من انبعاثات الكربون. أضف إلى ذلك، الزيادة الكبيرة في الطلب العالمي على النفط في العامين المقبلين، واحتمال منع الرئيس بايدن الحفر تماماً في المناطق الفيدرالية، فإنه من الواضح أن مناطق الصخري ستشهد نشاطاً كبيرة في عامي 2022 و2023. بعبارة أخرى، ترحيل التنقيب عن النفط في الأراضي الفيدرالية سيركز عمليات التنقيب في مناطق الصخري الخاصة.
التعليقات