ترنو الأنظار نحو القمة الأولى بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين في جنيف، مع التطلع إلى تبلور ملامح عالم ما بعد كورونا وصياغة التوازنات العالمية على ضوء الأشكال الجديدة من التنافسية والحرب الباردة داخل الثلاثي الأميركي- الصيني- الروسي. لن يتمخض هذا اللقاء، على الأرجح، عن صفقات أو تسويات في ملفات خلافية متراكمة، لكنه سيرسي العودة إلى الحوار بالرغم من التشنج بين واشنطن وموسكو، وصعوبة تجاوز العبارات القاسية وغير الدبلوماسية بين سيّديْ البيت الأبيض والكرملين.

ومما لا شك فيه أن مسعى بايدن لإعادة إحياء الحلف الغربي ضد الصين وروسيا وتحت يافطة حماية الديمقراطية، يعتبره بوتين تحديا كبيرا لأنه يعيق تصميمه على اكتساب القوة والنفوذ. وهذا الفرز سيطبع المرحلة الحالية من العلاقات الدولية ويزيد من المواجهات السيبرانية والاقتصادية والحروب بالوكالة.

أتى الرئيس الأميركي إلى أوروبا لحضور قمة الدول السبع وقمة حلف الناتو قبل القمة مع نظيره الروسي. وقد تباهى برفع لواء الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن الواضح أن بايدن أراد التأكيد أنّ “ليست أميركا وحدها هي التي عادت، بل القيم الأميركية عادت أيضاً إلى اللعبة الدولية”. وخلف هذا التوجه تكمن حسابات جيوسياسية بقدر ما هي أخلاقية لأنها تتزامن مع مساعي الصين وروسيا تغليب أنظمتهما “السلطوية” و”الأوتوقراطية” على الأنظمة الديمقراطية. وهكذا لا تنشغل واشنطن حصراً بالمواجهة حول اللقاحات ضد كورونا، بل تعتزم أيضًا نقل المعركة من جديد إلى غلبة القيم والنماذج بعد أربع سنوات من رئاسة ترامب، غابت عنها هذه الأولوية.

ومن هنا ينطلق بايدن نحو جنيف مع الاعتقاد بأن الولايات المتحدة والعالم يحتاجان إلى جرعة معززة من الديمقراطية في الخارج، ويطال ذلك روسيا في المقام الأول لأنها أكثر عدوانية حسب واشنطن ولأن قدرتها على إيذاء الغرب أكبر من قدرات الصين، ولو أن الاستراتيجيين الأميركيين يركزون على أولوية الخطر الصيني متعدد الأبعاد .

ليس من الأكيد أن القيم والأخلاق تمثلان الأولوية لواشنطن قبل مصالحها ومقاربتها للجغرافيا السياسية، لكن كما عادة الديمقراطيين تمثل مسألة حقوق الإنسان ومنظومة القيم الغلاف لسياسات أميركية هجومية. ويجدر التذكير أن بايدن اجتمع مع بوتين عندما كان نائبا لأوباما، وينقل عنه أنه قال في تلك المرحلة عن بوتين أنه “بلا روح”. ووصفه بعد وصوله إلى البيت الأبيض بـ”القاتل” بالرغم من قيامه بخطوة تجديد معاهدة “نيو ستارت” خلافاً لترامب (لاحقا رفض بايدن تجديد معاهدة “السماوات المفتوحة” مما يدلل على مناخ عميق من عدم الثقة) وغالب الظن أن وصف “القاتل” ليس له صلة بموضوع المعارض نافالني، بل من شك بايدن حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية ضد الديمقراطيين والهجمات السيبرانية في العام الماضي. لكن سيد الكرملين لم يرد مباشرة على الإهانة بل اكتفى بالتمني أن يكون بايدن أقل انفعالاً خلال القمة، مع التشديد على أن “العلاقات الأميركية – الروسية تمرّ بأسوأ أحوالها”.

ضمن هكذا أجواء ستنعقد القمة الأولى المنتظرة وكأننا في زمن الحرب الباردة والتي لا تنقصها الملفات الخلافية من سباق التسلح إلى أوكرانيا والجوار الروسي وحقوق الإنسان وبورما والكثير من نقاط التوتر العالمي. وبينما يأتي سيد الكرملين إلى القمة بعدما هدد بتكسير أسنان كل من يتجرأ على روسيا، وبعدما زاد من الإجراءات بحق معارضيه وخاصة المقربين من نافالني، يحل الرئيس بايدن في أوروبا مركزا على إحياء الحلف الغربي الديمقراطي ضد روسيا والصين، لكن الوضع الداخلي الأميركي يمثل إحدى نقاط ضعفه لأن بوتين كما الكثير من القادة الأوروبيين يراقب احتمال فوز الجمهوريين في الانتخابات النصفية القادمة في 2022 أو احتمال عودة ترامب أو فوز أحد مؤيديه في 2024. ومن هنا لن تكون مهمة الرئيس الديمقراطي سهلة لأنه يراهن على أن نجاحاته الخارجية سيكون لها تأثير مباشر على الأميركيين، ولعل أبلغ تعبير في هذا الإطار، ما جاء على لسان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الذي قال “عندما يعود بايدن إلى واشنطن، نعتقد بأننا سنكون في وضع أقوى لإدارة التهديدات والتحديات الرئيسية التي يواجهها هذا البلد، بما في ذلك كوفيد – 19، المناخ، الصين، الإنترنت، روسيا، وتشكيل قواعد التجارة والتكنولوجيا”.

من جانبه، سينتهز بوتين فرصة انعقاد هذه القمة كي يبين للروس والعالم أنه الند الذي يقارع رئيس القوة العظمى، ومما لا شك فيه أن مهارة بوتين التكتيكية لا تعني امتلاك استراتيجية متكاملة، وأن الدبلوماسية “المراوغة” لا تخفي التناقضات العميقة التي تميز نهج موسكو. بالفعل، روسيا قوة استراتيجية كبرى لكنها لا تملك كل عناصر القوة للعب في ملعب الفريقين الكبيرين الآخرين (الأميركي والصيني). وحسب خبراء أوروبيين بالشأن الروسي تمثل الصين التهديد الحقيقي الوحيد لروسيا بشكل مباشر، وهكذا لا تتطابق المصالح قصيرة الأمد ومصالح البلاد طويلة الأمد. ومن هنا ربما بأخذ بايدن هذا العامل بعين الاعتبار كي لا تواجه واشنطن مستقبلاً الثنائي الصيني – الروسي الموحد.

في مطلق الأحوال هناك معركة الصورة ونظرة العالم لكل من بايدن وبوتين على ضوء ما سيحصل على ضفاف بحيرة ليمان. بالنسبة إلى الرئيس الأميركي إنها لحظة إبراز التفوق وإبلاغ ذلك لرئيس بلاد يصنفها على أنها تهديد وجودي لبلاده. أما بالنسبة إلى بوتين، فإن صورة روسيا في العالم هي أحد المفاتيح الأساسية لشرعيتها. ليس المهم إذن الرخاء الاقتصادي والحرية ، بل الأهم أن “القيصر الجديد” أعاد لروسيا دورها العالمي ويعمل على إعادة مجدها.

يسعى بوتين لتعزيز مكانته في العالم وقوته في روسيا، لذا يحرك النزعة الوحدوية الروسية تجاه أوكرانيا (وبيلاروسيا، وبلدان البلطيق) في مسعى لبعث النواة الروسية الصلبة للاتحاد السوفييتي السابق.

ومن الناحية العملية نذكر أن بوتين أراد اختبار بايدن، في مارس الماضي، عبر الساحة الأوكرانية ظنا منه أن واشنطن المنسحبة من أفغانستان وغير المهتمة بالقوقاز كما كان ذلك من قبل، ربما تتراجع أيضا عن دعم كييف. لكن تشدد بايدن حيال الحشد الروسي ضد أوكرانيا دفع بوتين إلى المرونة وسحب قواته، لكنه بالمقابل أخذ يفرض نفسه محاورا مع رهان ضمني على جعل واشنطن تسلّم مع مرور الزمن بالأمر الواقع الذي فرضته موسكو مع ضم شبه جزيرة القرم، وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.

وما سيكون قيد الانتباه متابعة مواقف الزعيمين من التطورات في الشرق الأوسط التي لن تنال على الأرجح الكثير من الوقت، إذ أنه مقابل الاهتمام الأميركي بإعادة الوصل مع إيران كأولوية في الشرق الأوسط، استغل بوتين أخطاء واشنطن والفراغ، حيث عمل على الانطلاق من سوريا والتنسيق مع إسرائيل وتركيا، والتقرب من مصر ودول عربية في الخليج والتدخل في ليبيا، لكنه وضع إيران نصب عينيه في سياق استراتيجية تتنبه أيضا للتمدد الصيني وتنسيقه مع باكستان على المدى المتوسط.

لن تسمح هذه القمة لبايدن بالتغطية على تداعيات الانسحاب الأميركي من العديد من الشؤون العالمية، ولن تمنح بوتين الفرصة لتكريس مكاسبه التي يبقى بعضها هشاً. في قمة الأسئلة المفتوحة سيصعب إعطاء أجوبة حاسمة تتلاءم مع المتغيرات السياسية والاستراتيجية والبيئية والصحية، وسينتظر انبثاق نظام عالمي جديد نتائج صراعات هذا العقد من الزمن وتجاذباته في ظل احتدام تنافس لا ينحصر في القطبين الكبيرين سابقاً، بل يتمركز أساسا بين العملاق الأميركي والتنين الصيني.