في ذكرى مرور قرن على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني لا بد من طرح العديد من الأسئلة عن تاريخه منذ أن استولى على السلطة عام 1949، وعن إنجازاته وإخفاقاته مذاك، وعن قائده التاريخي الأبرز المعلم «ماو تسي تونغ» وما شاب عهده من ندوبات غائرة إلى اليوم في الجسد الصيني. نقول هذا لأن الكثيرين ما زالوا مبهورين بهذا الحزب ومؤسسه ويعدونهما نموذجاً للقيادة الحكيمة التي «حولت بلداً جائعاً إلى ثاني اقتصاديات العالم»، بل إن البعض منهم ذهب إلى حد تصنيف «ماو» ضمن عظماء التاريخ ووضعه على قدم المساواة مع شخصيات عظيمة مثل المهاتما غاندي وإبراهام لينكولن ونيلسون مانديلا. ثمة حقائق يجهلها أو يتجاهلها عمداً أولئك الذين يكتبون عن الصين، حيث الحزب الشيوعي هو الصين والصين هي الحزب الشيوعي دون مبالغة. أولى هذه الحقائق هي أن ما وصلت إليه اليوم من مكانة اقتصادية لم يتحقق إلا بعد وفاة مؤسسها عام 1976 وتسلم الزعيم الإصلاحي «دينغ هسياو بينغ» دفة الأمور؛ وثانيتها أن صين ما قبل النظام الشيوعي لم تكن متخلفة بالصورة التي يتم تداولها، فمدينة مثل شنغهاي كانت في ثلاثينات القرن العشرين نابضة بالحياة وتعج برجال الأعمال والسياح وتسكنها طبقة كبيرة من المفكرين والمثقفين، وكانت تبعث بأبنائها إلى أفضل جامعات الغرب، بل كانت تنافس نيويورك في الحركة والأبهة وعدد المصارف والأكاديميات والبورصات ومراكز الفكر؛ وثالثها أن ما حدث في الصين على يد النظام الشيوعي من مجازر وتصفيات وتهجير قسري وإهدار للكرامات وتقييد للحقوق الآدمية لم يحدث بالشكل نفسه في مكان آخر.
صحيح أن ثورة ماو الشيوعية نجحت في الانتقال بالصين من بلد فلاحي إلى بلد صناعي في غضون سنوات قليلة، وصحيح أنها خلقت دولة متماسكة جغرافياً وقوية عسكرياً تحت حكم الحزب الأوحد والنهج الماركسي، إلا أن الصحيح أيضاً أن أكلاف هذه التحولات كانت باهظة جداً. فعملية «الزحف الكبير» التي قادتها الميليشيات الشيوعية للإطاحة بحكومة الصين الوطنية أدت إلى حرب أهلية ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء في الأربعينات وتهجير نحو مليوني نسمة إلى جزيرة فرموزا. وما أن استتب الأمر لماو إلا وبدأ مشروعه المعروف باسم «القفزة الكبرى إلى الأمام» بهدف تحويل الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة بأسرع ما يمكن، فتسبب هذا المشروع الارتجالي في أشد مجاعة في التاريخ البشري ونجم عنه مقتل ما بين 20 و46 مليون صيني خلال الفترة من 1958 إلى 1963. وفي عام 1966 أطلق ماو ما عـُرف بالثورة الثقافية بهدف التخلص ممن سمّوا بـ«عناصر الثورة المضادة». والمعروف، أن هذه العملية التي استمرت عقداً كاملاً، تخللها العنف والدمار والاضطهاد والرعب والإعدامات الجماعية وتهجير النخب المتعلمة والمثقفة والمتميزة إلى معسكرات إعادة التأهيل في الأرياف البعيدة، وهو ما أفضى إلى وفاة ملايين عدة أخرى من الصينيين، كان من بينهم رئيس الجمهورية «ليو تشاو تشي». علاوة على ما سبق، أقحم ماو بلاده، من منطلقات آيديولوجية بحتة ومن رغائب فردية محضة، في الحروب الكورية والفيتنامية والكمبودية، فتسبب في موت أعداد كبيرة أخرى من مواطنيه.
الجانب الآخر المظلم من صورة الحزب الشيوعي الصيني وقادته يتجلى في سياساتهم الخارجية. فحتى وفاة ماو تشابهت سياسات بكين مع السياسات الحالية للنظام الإيراني لجهة التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتحريض شعوبها ضد أنظمتها الشرعية، وتصدير نموج الصين الحمراء إلى الخارج، واحتضان غلاة المتطرفين اليساريين وتدريبهم على «الحرب الشعبية»، والإنفاق على بعض حركات «مقاومة الإمبريالية» الأشد تطرفاً وإرهاباً في العالم. ولعل ما حدث في إندونيسيا وظفار وزنجبار أفضل دليل على حماقات تلك السياسة.
نعم، لقد تغيرت سياسات الصين الاقتصادية كثيراً بعد انتهاء الحقبة الماوية وانتهاج البلاد لاقتصاد السوق مع الهيمنة على بعض القطاعات الاستراتيجية؛ ما أدى إلى تحقيق نمو اقتصادي مشهود وتحسن الأوضاع المعيشية في المدن والحواضر وتحول الصين إلى قوة اقتصادية وتصديرية عالمية، وبموازاة ذلك حدثت تطورات إيجابية في حقول التعمير والتعليم والمواصلات والرعاية الصحية والتكنولوجيا، لا يمكن إنكارها. وبالمثل تغيرت سياساتها الخارجية فانتقلت من التحريض والشعارات الآيديولوجية الجوفاء إلى البراغماتية التي تتوخى المصالح العليا. غير أن تركيزها على مصالحها فحسب دون أدنى اكتراث بمصالح الآخرين، معطوفاً على ما يتوفر لها من قوة اقتصادية وعسكرية، جعلها تتنمر في تعاملها مع الدول الإقليمية وفي البحار المحيطة؛ ما خلق شعوراً من التوجس والخوف لدى العديد من الدول، خصوصاً بعد انتهاج بكين لما بات يعرف بسياسة «القروض المفخخة». على أن ما لم يتغير حتى الآن هو النظام الشمولي الصارم المقيد للحريات والمنتهك لأبسط الحقوق. وفي هذا السياق لن نتحدث عن الرقابة الصارمة على حرية التعبير ووسائل الإعلام المملوكة كلها للدولة والحزب، ولن نتحدث عن الاعتقالات والإعدامات التعسفية؛ إذ تكفينا الإشارة إلى ما يعانيه شعب هونغ كونغ والأويغور المسلمين في مقاطعة سنجيانغ (تركستان الشرقية) من اليد الباطشة للحزب الأحمر الصيني. نخالة القول، هي أن الحزب الشيوعي الصيني هو الذي يدير كل شيء في البلاد بقبضة حديدية. وقد يعود إلى النهج الماوي مجدداً بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية والحقوقية التي يفرضها الغرب على الصين، خصوصاً في ظل وجود الرئيس الحالي «شي جينبينغ» في قمة السلطة، والذي صدرت عنه مواقف راديكالية معطوفة على شهوة لا حدود لها للبقاء في السلطة.
التعليقات