كلُّ شيءٍ يمكن أنْ يتحمّله الناس، إلّا – فقط – ازدراء الموت الجماعيّ والموتى والضحايا والقبور والأشلاء والأوجاع والمشاعر العميقة. السلطة، بكلّ مستوياتها ومراتبها ومناصبها وكراسيها ورموزها وأشخاصها ورئاساتها وأحزابها وطوائفها ومذاهبها، تجسّد هذا الازدراء أيّما ازدراء، و”ترقى” به إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من الفحش والسفالة والخسّة و… الوقاحة. هاكم عيناتٌ يوميّةٌ من ماركة “#صُنِعَ في لبنان”، ينبغي إدراجها في كتاب “غينيس” لأرقام العار القياسيّة.

الرابع من آب 2020 – الرابع من آب 2021، قد يمثّل نموذجًا (صنميًّا مقدّسًا) لهذا الازدراء، حيث يُجمِع كلّ أطراف الطبقة الحاكمة على اعتبار ما حدث وكأنّه أمرٌ (طبيعيّ) كمثل شرب الماء (غير المسموم) وتنفّس الهواء (غير الملوّث). واحدٌ يعرف كلّ شيء، وينكر كلّ شيء. ثانٍ يسمّي الجريمة المطلقة حادثًا عابرًا وقضاءً وقَدَرًا. ثالثٌ “يتوعّد” (ابن) البيطار ويقول له نحن – لا أنت – مَن نكشف الحقيقة كاملةً. رابعٌ يعتدّ بقتل الناس (قانونيًّا)، ويحتمي بآخر أعلى رتبةً منه، ويمنع – باعتباره مسؤولًا حكوميًّا – الملاحقات القضائيّة عن مدّعى عليهم (يقعون) تحت سلطته المباشرة. خامسٌ يرفع دعوى على مواطنين لأنّهم طالبوا بالتثبّت (العقليّ والطبّيّ) من أهليّة أحد (كبار) المسؤولين. سادسٌ (متعدّد الوجوه والأقنعة والرؤوس والأيدي) يدجّن التشريع والدستور، ويدوّر الزوايا. سابعٌ يسرق الدواء، ويهرّب البنزين، ويروّج المخدّرات، ويجوّع الناس، ويقتّلهم في الشارع، ويعتدي عليهم، ويمشي (ملكًا). ثامنٌ متورّطٌ يمنع منعًا باتًّا رفع الحصانة عن نفسه وعن (الشركاء الأعداء) في جريمة الإبادة الوطنيّة الجمعاء. تاسعٌ يكسر القوانين والأحكام ويقاضي القضاء والمحامين والمواطنين والمتمرّدين والمنتفضين والمتظاهرين والأوادم لأنّهم (أحرار وأوادم). عاشرٌ يشرف على تسيير شؤون العمالة والخيانة الوطنيّة بدقٍة لا تعدلها دقّة. وهناك حادي عشر وثاني عشر وثالث عشر وإلى آخره…

قد يكون كلُّ شيء مقبولًا على مضض، ومحتملًا على مضض، ومسكوتًا عنه على مضض، إلّا الازدراء.
ما هو الازدراء؟ هو أنْ تقول السلطة – هذه السلطة الغاشمة – للناس: إنّي ازدري موتاكم وضحاياكم وقبوركم وأشلاءكم، وأزدري أطفالكم وأولادكم، بل وأزدريكم عن بكرة أبيكم وأمّهاتكم، وأزدري مشاعركم، وآلامكم، وأوجاعكم، ومشقّاتكم، وشقاءكم، وفقركم، وجوعكم، ومرضكم وطبعًا: أحلامكم. وإنّي – والكلام للسلطة – ما فرقانة معي وجودكم وعدم وجودكم. بلِّطوا البرّ والبحر.

هذه السلطة المزدرية هي التي أنتجت 4 آب، وهي تنتج كلّ 4 آب آخر. وستظلّ تنتج – إذا استمرّت في الحكم – 4 آب مفتوحًا على اللّانهاية. إنّها معملٌ للازدراء، لا يتوقّف عن العمل والانتاج. 24 ساعة على 24 ساعة. إلى أنْ يُجهز هذا الازدراء على كلّ أملٍ وحقٍّ وفجر، وعلى كلّ انسانٍ نزيهٍ وشريفٍ وآدميٍّ وحرّ. فلا يبقى إلّا الأزلام والمرتزقة والمنتفعون والعملاء والخونة، ومَن لفّ لفّهم، وشدّ مشدّهم. ولا استثناء.

أنا السلطة المزدرية، أنا الحاكمة (الحاكم) بأمري (بصبّاطي، بجزمتي، بمداسي، بحذائي، بقدمي، وبتحت زنّاري)، لا حدود لسلطتي ولازدرائي. وسأظلّ في السلطة، وسأظلّ أزدري رقابكم وأرواحكم إلى أبد الآبدين، على طريقة الأنظمة والسلطات الأبديّة في الجوار والمنطقة أجمعين وآمين.

العدالة؟ أيّ عدالة تحت جزمة هذه السلطة؟! لا عدالة، ولو فرّخ قرونٌ في رؤوس الناس. افهموها من الأوّل، من الأخير. العدالة مستحيلة في ظلّ هذه السلطة. الموتى سيزدادون موتًا. وهذه هي حال الضحايا، وحال القبور، وحال الأشلاء، وحال الأحياء، وأحوال المشاعر النبيلة. افهموها جيّدًا، ومرّةً واحدة. عبثًا انتظار العدالة. عبثًا لفظ الأحكام العادلة الرصينة التي تحاكم القتلة والمجرمين والمتلكّئين والمتواطئين والمتورّطين والغافلين والساكتين، وتضع حدًّا للفساد. انتظار مثل هذه الأحكام، يشبه حال مَن ينتظر إحقاقَ الحقّ على يد الهباء، وعلى يد العدم.

افهموا جيّدًا: كلّ مَن ينتظر حكومةً مستقلّةً ونظيفةً وفاعلة، على يد (توازنات) هذه السلطة، وكلّ مَن يأمل بإجراء انتخاباتٍ نيابيّة ورئاسيّة (نزيهة وسيّدة حرّة مستقلّة) على يد هذه السلطة (وتوازناتها)، هو كمَن يتوقّع تدفّق الماء السلسبيل الزلال النقيّ الصافي في صحراء الجدب والقحط والعقم والعدم.

إذا كان لبنان يبقى، وشرط بقائه هو بقاء هذه السلطة بأطرافها، فليذهب هذا اللبنان إلى الجحيم، غير مأسوفٍ عليه. ولتذهب معه رئاسة جمهوريّة الموارنة إلى الجحيم أيضًا. ومعها رئاسة مجلس “سيّد نفسه” (ووزارة المال) للشيعة. ورئاسة مجلس الوزراء للسنّة. إلى الجحيم. إلى الجحيم. وبالثلاث.

لم نعد نريد الازدراء بعد الآن. لم نعد نتحمّل هذا الازدراء. كلّ مَن يعنيه بقاء لبنان، ووجوده، فليفهم جيّدًا – ومرّةً واحدةً وأخيرة – أنّ هذين البقاء والوجود مستحيلان في ظلّ سلطة الازدراء والاستكبار والغلبة والعهر والسفالة والخساسة والفساد (والشرمطة) هذه.

ومن أجل الوضوح: يستحيل إيجاد حلٍّ في ظلّ سلطة الازدراء هذه. كلّ مَن يبحث عن حلٍّ للبنان (ونحن نريد هذا الحلّ بكلّ قيمنا ومعاييرنا وجوارحنا)، فليبحث عنه خارج (غصبًا عن) سلطة الازدراء والاستكبار (والسلاح) هذه. من له أذنان سامعتان فليسمع.