أنْ يغامر امرؤ، إذا أوجب ظرف طارئ إقدام الشخص على هكذا تصرف، إما لأمر ذاتي، أو عند التعامل مع أمور تخص عموم الناس، فإنه سوف يفعل ذلك بعدما يمتلك من الشجاعة، القدر الذي يوفر له تماسك أعصاب يعينه على الدفاع عن موقفه في مواجهة خصومه. بيد أن صفة شجاع وحدها ليست تكفي لإقناع أحد بأن مغامرة أقدم عليها فرد على نحو مفاجئ، وبشكل انفرادي بحت، يمكن تقبلها بصرف النظر عن نتائجها، حتى لو أنها انتهت به، وبآخرين من حوله، إلى وضع كارثي. الأهم من التحلي بالموقف الشجاع، هو امتلاك ناصية اقتناع تام بأن الموقف صحيح تماماً، وأن فوائد الإجراء المُزمع، على المدى البعيد، توجب الانتقال من موقع الجرأة إلى الاجتراء على التنفيذ، ومن ثم تجنب التوقف كثيراً أمام صيحات انتقاد سوف تثور، على الأرجح، بسرعة رياح الأعاصير. الوصول إلى هذا المستوى من العزم، قبل اتخاذ أي قرار صادم، يتطلب، حتماً، إنفاذ المبدأ المعروف منذ قديم الأزمان: «كي تقنع غيرك، يجب أن تقتنع أنت أولاً».
يصادف الناس هكذا وضع في مختلف المستويات. هناك أفراد، في كل المجتمعات، وباختلاف الثقافات، يفاجئون بعضاً من أقرب الأقربين إليهم باتخاذ قرارات لم يخطر أي بُعد من أبعادها على بال أحد منهم. الأسوأ أن يسارع الفرد المُفاجئ غيرَه ممن حوله فيضع ما قرر موضع التنفيذ، بلا اكتراث للآخرين. يوصف حال هؤلاء في قول يتردد منذ زمن بعيد أيضاً: «أنا، ومن بعدي الطوفان». منتهى الأنانية؟ طبعاً، بالتأكيد. إنما، بين ما قد يُعذَر من تجليات تلك «الأنا»، حالة وصول ولَه العاشق بالمعشوقة حد آلام أبي فراس الحمداني، إذ يصدع حزيناً: «مُعللتي بالوصل والموتُ دونه... إذا مِتُ ظمآناً فلا نزل القطر». عندما يحدث هذا كله ضمن النطاق الذاتي، يظل الأمر في إطار قابل للسيطرة والإبقاء عليه داخل حدود ذاتية يُحال بينه وبين تجاوزها. الأخطر من السياق الذاتي هو الشأن العام. إذن، إلى التساؤل التالي؛ تُرى، هل أن بوريس جونسون، رئيس حكومة بريطانيا، بلغ مرحلة من القلق على مستقبل بلده، اقتصادياً، مشابهة لحالة العشق تلك، فبدا كأنه يقول للناس ما مضمونه؛ دعوا أشباح الخوف من فيروس «كورونا»، وهيا انطلقوا نعيش الحياة، ونتعايش مع «كوفيد - 19» من منطلق أنه إحدى حقائق الواقع؟
نعم، واضح أن بوريس جونسون توصل إلى اقتناع تام بأن المضي في إعادة فتح مرافق الحياة في إنجلترا، والتحرر من كل قيود الإغلاق، بما فيها مسافات التباعد، اعتباراً مما أعطي الاثنين الماضي وصف «يوم الحرية»، هو إجراء ضروري على طريق إخراج البلد، ولو بالتدرج، من نفق وضع اقتصادي مستمر في التدهور. يستند جونسون في اعتماد هذا المنهج إلى حقيقة أن برنامج التطعيم يمضي بنجاح واثق. في هذا السياق يُشار إلى مجموع متلقي جرعتي اللقاح وصل حتى مساء أول من أمس إلى 35 مليوناً و970 ألفاً و847 شخصاً، وهو رقم مشجع بالفعل لجهة أن التصدي للوباء ممكن فعلاً. إنما، هل أن ذلك يعني بالضرورة انتهاء المخاوف إزاء إمكانية انتشار فيروس «كورونا» من جديد ومن ثم الاضطرار إلى عودة الإغلاق مجدداً؟ كلا، بالتأكيد. على النقيض من ذلك، إذ إن تسجيل عدد حالات مرض «كوفيد - 19» آخذ في الازدياد. مساء أول من أمس، قالت الأرقام إن 39 ألفاً و950 إصابة جديدة جرى رصدها خلال الأربع وعشرين ساعة التي سبقت. المعنى هنا واضح جداً، وخلاصته أن إنهاء قيود الإغلاق، لا يعني، على الإطلاق، انتهاء مرحلة الوباء.
في ضوء ما سبق، بوسع المتشائمين الانطلاق إلى القول إن مغامرة بوريس جونسون برفع كل القيود دفعة واحدة، تشكل مقامرة تحمل معها كثيراً من المخاطر التي سوف يدفع البريطانيون نتيجتها فادح الثمن خلال فصل الخريف المقبل، وبشكل أسوأ مع قدوم الشتاء. من جهته، فإن السيد جونسون زاد الأمر سوءاً حين أطلق العنان في الكلام فزلّ اللسان بقول سيئ في حق كبار السن، عندما قال إن أغلب الموتى نتيجة «كوفيد - 19» سيكونون ممن تجاوزوا عامهم الثمانين. كلام غير محسوب من جانب سياسي يجب أن يزن كل كلمة بميزان الذهب قبل نطقها. لكن، هكذا هي المغامرة، عموماً، عندما تنقلب مقامرة، إذ ذاك تختل المعايير، وتضطرب الموازين، فما العجب؟