ثلاثة وفود من «طالبان» كانت موجودة في وقت واحد في روسيا وإيران وقطر. الأهم كان الوفد الموجود في قطر الذي أجرى محادثات مع الوفد الأفغاني الحكومي الذي ترأسه عبد الله عبد الله وأنهته «طالبان» من دون أن تعطي تفاصيل ما تريده، خصوصاً ما يتعلق برفضها القاطع لمبدأ إجراء انتخابات، إذ بنظرها هذا يتنافى مع الشريعة، واعدة بمواصلة المفاوضات بعد أسابيع أو بعد أشهر. أما في إيران فبينما رحب محمد جواد ظريف بمستقبل زاهر يجمع بين بلاده وأفغانستان، حذر آية الله العظمى لطف الله صالح غولبايكاني حكومته من الوثوق بجماعة إرهابية لا يخفى على العالم طبيعتها الشريرة والقاتلة.
بدأت اللعبة النهائية في أفغانستان بجدية مع إعلان الرئيس جو بايدن عن استكمال الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان بحلول 31 أغسطس (آب)، فاستغلت «طالبان» الأفغانية التأثير المحبط لرحيل القوات الأميركية على الحكومة والقوات النظامية وخطفت زمام المبادرة من أيدي خصومها من خلال شن هجمات جيدة التخطيط لتوسيع المنطقة الخاضعة لسيطرتها. هناك تقارير يومية عن مناطق في أجزاء مختلفة من أفغانستان تقع في أيدي «طالبان». في كثير من الحالات، استسلمت القوات الحكومية الأفغانية من دون مقاومة كبيرة. بالنظر إلى السهولة التي أحرزت بها «طالبان» انتصارات على قوات الحكومة الأفغانية، سيكون من الممكن التنبؤ بأن أيام نظام كابل باتت معدودة.
إن فشل المغامرة العسكرية الأميركية في أفغانستان رغم الخسارة الفادحة في الدماء والأموال، يثير تساؤلات مهمة حول مبررات الغزو الأميركي للبلاد والاستراتيجية اللاحقة التي انتهجتها. بالنظر إلى الماضي، من الواضح أن الغزو كان رد فعل على إرهابيي 11 سبتمبر (أيلول) 2001. يمكن القول إن هناك طرقاً أخرى كان يمكن من خلالها معاقبة «القاعدة» على جرائمها. تسببت هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أميركا في اندلاع صراع استمر قرابة 20 عاماً أدى إلى مقتل أكثر من 3500 من الجنود الأميركيين والحلفاء، ومقتل أكثر من 47 ألف مدني أفغاني، وما لا يقل عن 66 ألف جندي أفغاني، وتهجير أكثر من 2.7 مليون أفغاني. هذا وفقاً لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون.
قال المحارب الأميركي المخضرم جيسون ليلي لوكالة «رويترز» يوم الاثنين الماضي: «مائة في المائة خسرنا الحرب»... إن الدماء التي أريقت في أفغانستان قد ضاعت. ونتيجة لذلك، فشل نظام الحكم الذي فرضه الغرب بقيادة الولايات المتحدة على أفغانستان في ترسيخ جذور المجتمع الأفغاني وكسب قلوب وعقول شعبه، خصوصاً أولئك الذين يعيشون في قلب الريف. وفوق كل شيء، حملت الحكومة في كابل وصمة العار المتمثلة في أنها مفروضة من قوة احتلال على أفغانستان. كان أي شخص مطّلع على التاريخ الأفغاني يتوقع أن مثل هذه الحكومة لن تدوم طويلاً بمجرد إزالة الدعم العسكري الأجنبي. هذا بالضبط ما يحدث في أفغانستان الآن. ويقارنه الكثير من الأميركيين بالصراع في فيتنام. يقولون إن كلتا الحربين لم يكن لهما هدف واضح، واكبهما الكثير من الرؤساء الأميركيين في مواجهة عدو شرس لا يرتدي الزي العسكري، وكبر الكثير من الأميركيين ليفهموا لماذا أطلق المؤرخون على فيتنام اسم «مقبرة الإمبراطوريات...».
لقد غزت بريطانيا أفغانستان مرتين في القرن التاسع عشر وتعرضت لإحدى أسوأ هزائمها العسكرية هناك عام 1842، واحتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان من عام 1979 إلى 1989 وانسحب بعد مقتل 15 ألفاً من جنوده وجرح عشرات الآلاف. لكن لدى بعض الأميركيين الآخرين تقديرات مختلفة بشأن حرب أدت إلى تحسين حقوق المرأة، إضافةً إلى مقتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن في باكستان عام 2011.
هنا يأتي قلق باكستان. إذا نظرنا إلى خريطة أفغانستان سنرى أنه عبر حدودها الجنوبية والشرقية تمتد باكستان على طول 1600 ميل أو نحوه. ومع ذلك، من الصعب الحديث عن دولة من دون ذكر الأخرى. تداخلت الحرب الأميركية في أفغانستان مراراً مع باكستان. ومن باكستان تمر قوات «طالبان» ذهاباً وإياباً. ولباكستان نسختها القاتلة من «طالبان». كذلك عبر أسامة بن لادن الحدود قبل مقتله.
إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يؤثر على باكستان أيضاً. لقد أصبحت القوات الأميركية خارج أفغانستان فعلياً. الحكومة المتحالفة مع الولايات المتحدة في حالة تراجع. وسيطرت «طالبان» على المزيد من الأراضي، بما في ذلك معبر حدودي كبير مع باكستان وآخر مع إيران. صحيح أن إيران وتركيا تتطلعان إلى أفغانستان لمكاسب نفوذ واقتصاد، لكنّ تفكُّك عملية السلام واستمرار عدم الاستقرار في أفغانستان يؤثر على باكستان بأكثر من طريقة. لقد عانت باكستان تاريخياً ودفعت على الأرجح الثمن الأكبر بعد أفغانستان بسبب الصراع، حيث كسبت وخسرت نحو 150 مليار دولار، وفقدت 70 ألف شخص. هي الآن تراقب بقلق بالغ الوضع الذي يتكشف. وتريد أن تتأكد من أن عملية السلام التي بذل فيها الكثير من الدول الكثير من الطاقة، يتم دعمها بحيث يتم التعامل مع حالة عدم الاستقرار الأخيرة هذه بطريقة فعالة.
الحديث يدور الآن حول عملية سلام بين الحكومة الأفغانية و«طالبان»، الذين سيطروا في السابق على البلاد وكانوا في حالة تمرد ضد الحكومة منذ عقدين من الزمن، وقد ارتبطت باكستان بطرق مختلفة بـ«طالبان» الأفغانية، رغم أنها ترفض المزاعم حول مدى دعمها لحركة «طالبان». لكن هناك روابط لا سيما مع جهاز الاستخبارات الباكستانية الشهير. لكن هل من مصلحة باكستان أن تنتصر «طالبان»؟ لا. قال رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي كان موجوداً في طشقند، أوزبكستان، الأسبوع الماضي وبوضوح شديد، ليس لدينا من نفضله. كل من يقبله شعب أفغانستان مقبول لدى باكستان. وحثثنا «طالبان» على الامتناع عن الضغط من أجل تحقيق نصر عسكري. وأعتقد أن الوقت قد حان لكي تبدي الحكومة الأفغانية المرونة أيضاً.
لقد دعت باكستان بحق إلى تسوية سلمية بين مختلف الفصائل الأفغانية لتجنب حرب أهلية شاملة وإراقة الدماء في أفغانستان، الأمر الذي ستكون له تداعيات سلبية خطيرة على أمنها ورفاهيتها الاقتصادية وعلى السلام الإقليمي. لكن من المستبعد جداً أن تمضي «طالبان» المستشعرة النصر العسكري في أعقاب الانسحاب العسكري الأميركي وزخم الأحداث لصالحها في مثل هذه التسوية إلا بشروطها الخاصة. إن خطة السلام التي تعتزم «طالبان» الإعلان عنها قريباً ستوفر ورقة التوت التي يُضرب بها المثل، لاستسلام سلمي من حكومة كابل. لذلك، فإن من الحكمة أن تُعد باكستان نفسها لـ«طالبان» أو حكومة تهيمن عليها «طالبان» في أفغانستان في المستقبل غير البعيد. هي تستضيف مؤتمر سلام في إسلام آباد، وهو جزء من جهودها الفعلية لبذل كل ما في وسعها للمساعدة في تسهيل عملية السلام لأن الرئيس بايدن محقٌّ في قوله إن الحرب في أفغانستان لا يمكن كسبها. لكن يبدو أن باكستان تؤمن وتعتقد اعتقاداً راسخاً أن السلام لا يزال ممكناً في أفغانستان، وهي تعتقد أن التركيز على عملية السلام، وتنفيذها هو أفضل استثمار يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. الأمل أن تكون «طالبان» قد تعلمت دروسها الخاصة من الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها خلال حكمها السابق في أفغانستان من عام 1996 إلى عام 2001، ومن مصلحتها ممارسة الاعتدال في سياساتها الداخلية والخارجية. داخلياً، ينبغي عليها محاولة توحيد الجهود مع الأحزاب والجماعات الأفغانية الأخرى في تشكيل حكومتها لجعلها ذات قاعدة عريضة ومستدامة. وعليها أيضاً أن تؤكد للمجتمع الدولي أنها لن تسمح لأي جماعات إرهابية بالعمل انطلاقاً من الأراضي الأفغانية ضد أي دولة أخرى. إن مثل هذه التأكيدات والمرونة من جانب الحركة في التعامل مع قضايا مثل حقوق الإنسان وتعليم الإناث من شأنه أن يساعد في التغلب على مخاوف القوى الخارجية وتحييد المعارضة المحلية.
ومع ذلك، بما أن احتمال نشوب حرب أهلية وانتصار «طالبان» مرتفع، كما يتوقع العسكريون البريطانيون، يجب أن تكون إسلام آباد مستعدة للتعامل مع موجة أخرى من اللاجئين. وسنرى اللاجئين ليس فقط يتدفقون على باكستان ولكنهم ينتقلون إلى بلدان أخرى في الجوار المباشر ثم ينتقلون إلى أوروبا وبقية العالم.
كم شعب سيتهجر بعد من أرضه ولأجل مَن؟
- آخر تحديث :
التعليقات