حين أقول إن «حزب الله» مشكلة لبنان الوحيدة أتوقع ردوداً مكررة من المعترضين. أولها الإشارة إلى التاريخ. «حزب الله» لم يكن حين اندلعت الحرب الأهلية. ولم يكن حين اندلعت حرب السنتين. فمشكلة لبنان أبعد من «حزب الله».
صحيح أنه لم يكن موجوداً بلفظه. لكنه كان موجوداً بمعناه. عدم الاعتراف بسلطة الدولة اللبنانية القائمة، واعتبارها الحلقة الأضعف إقليمياً، الممكن تسخيرها لخدمة غرض آخر. أكان ذلك باسم القضية الفلسطينية في السبعينات، أو باسم القومية الناصرية في الخمسينات. دعنا نقل إنه الجيل الحالي من حزب الغرض السامي الذي يَهون من أجله لبنان. لكنه أكثر الصور بشاعةً. إذ اقترن شكلاً ومضموناً وهيئةً ولفظاً وخطاباً بالتدخل الخارجي، والطائفية الداخلية. يا له من خليط متفجر مخزّن في موقع حيوي!
نعم، تتولد عن هذه المشكلة مشكلات أخرى لا بد من التعامل معها. لكن هذه أم القيح في الدمل. المعمل البيولوجي المتجدد لتوليد الخبث. وفي ظل الثقافة الشعاراتية التي ننعم بها في منطقتنا السعيدة، فهذه أيضاً منبع الرائحة الخبيثة التي تحتاج إلى توليد كم أكبر وأكبر من المعطرات الشعاراتية لدفنها، والتخلص منها. وكما يبالغ بعضهم في دفن رائحة الملابس بمزيلات الرائحة، بدلاً من غسلها.
الرد الثاني أكثر خبثاً، لكنه، للإنصاف، أكثر غباءً أيضاً. رغبة قائليه في التخابث تغلب الخجل الطبيعي من الغباء. يقولون لك: «لكن إيران ليست الدولة الوحيدة المتنفذة في لبنان».
وهو قول حق يراد به باطل. ليست مشكلة لبنان الوجود الإيراني فيه. قلما تجد دولة في العالم تحت مستوى القوة العظمى خالية من النفوذ السياسي لقوى أخرى. مشكلة لبنان مع النفوذ الإيراني طبيعته، وصورته، ومحصلته. هذا نفوذ يرمي في طبيعته المسلحة إلى تجاوز الدولة اللبنانية وعدم الاعتراف بها. ويتخذ في ذلك صورة تسليح ميليشيا طائفية، وضمان أن تكون دائماً أقوى من سلاح الدولة. هذا النفوذ هو الذي يتخذ قرارات السلم والحرب بناءً على المنظور الإيراني لا اللبناني.
جمهور «حزب الله» سياسياً واجتماعياً وقود هذا النفوذ. أعتقد أنه سيكسب منه نفوذاً يُترجَم إلى سلطة تترجَم إلى حياة أفضل له مهما كان الثمن المدفوع من الآخرين. حسناً، ربما تحقق له الغرضان الأوليان، أما الحياة الأفضل فلم ولن تتحقق. لم يعد هذا توقعاً كما كان قبل عقدين من الزمان. حين كنا نُتهَم بـ«خيانة المقاومة» إن قلنا هذا. لكن الأمر لا يتوقف عند مناصري «حزب الله». يمتد إلى السياسيين الانتهازيين الذين يعدّون غياب التحقق الفوري لرغباتهم السياسية مَظلمة، مكانها الطبيعي التحالف مع حلف المظلومية الأكبر. أتحدث عن التيار الوطني الحر، من دون ذكر أسماء، وانتهازيته، التي ضيّعت على لبنان فرصة محورية لتعزيز هيمنة الدولة، بعد أن ادعى التيار سنين طوالاً أن هذا غرضه الوحيد.
المظالم السياسية موجودة أيضاً في كل مكان. والأولمبياد السياسي اختبار لليأس والأمل، والإحباط والعزيمة. لكن -جميعاً- في نطاق الالتزام بقواعد اللعبة. إن كان زعيم يسابق زمن وجوده في الملاعب لكي يحصل على جائزة حَكَم لنفسه أنها مستحقة، فقد يخلق هذا لهفة مَرضية سلبية يُساء استخدامها. عليه أن يناضل لرفع ما أقنع مجتمعه بأنه غبن لهم. بدل أن يرتد على عقبيه فيقلد تماماً من لامهم في سنوات الحرب الأهلية. ويخلع بذلة الجيش الموحد، ويرتدي الرداء السياسي للميليشياوية.
أخيراً، المفترض مع مقولة «ليست إيران وحدها» أن يكون الحل بسيطاً. أن يرفع الجميع يده عن لبنان. أليس كذلك؟ خمّن ماذا حدث حين رفع الآخرون أيديهم. بدايةً، انهار لبنان اقتصادياً. لأن بعض «النفوذ» داخل لبنان كان نفوذاً إيجابياً، يدعمه اقتصادياً، ولا يجرّه إلى حرب، وكان مطلبه المقابل بسيطاً؛ الوضع الطبيعي. ألا يكون لبنان مدخلاً لتوسعات إقليمية على حساب جيرانه. أما المفارقة الكبرى فهي أن صاحب الجرم الأكبر -إيران- هو الوحيد الذي لم يرفع يده. لأن المقولة من الأول كانت للتشويش والتعجيز. لا أكثر ولا أقل.
مقولة «ليست إيران وحدها» متكاثرة أيضاً. تسمعها بصيغ مختلفة مثل «ليس (حزب الله) وحده». وتلتقي كلها في جوهر واحد: أنها تأخذ الحل رهينة حتى تنفيذ «مطالب أخرى». المطالب الأخرى -في هذه الحالة أيضاً- إن نُفِّذت لن يستجيب الخاطفون. لن يطلقوا سراح الرهينة. بل سيزداد الوضع سوءاً.
هتاف «كلن يعني كلن» ليس كافياً. حسن نصر الله يحتاج إلى هتاف وحده. هتاف يقول «نصر الله هو المشكلة الكبرى»، والبقية مقدور عليها. لقد خلق تكتلاً احتكارياً في السلاح والرئاسة والبرلمان لا يستطيع كائن من كان الاقتراب منه. في حين أن الآخرين يستقيلون ويذهبون ويجيئون بالضغط السياسي. بعضهم زعيم قوي في طائفته لكنه لا يستطيع إخضاع الدولة لأمره ونهيه. وبعضهم استغاث بنصر الله متوسلاً في 2008 أن يرحم بني طائفته. وبعضهم كان الوحيد من بين زعماء السياسة من عوقب على دوره في الحرب.
المشكلة في لبنان أنه رهينة. تحتاج إلى التحرر من خاطفها. حين تتحرر الرهينة لن تكون حياتها وردية. ستكون كحيواتنا، فيها منغصات ومشكلات ومعضلات وأحياناً مآسٍ، لكنها حياة عادية سيتعامل لبنان معها. أما في ظل «حزب الله»، فلبنان أمامه طريق واحد لا ثاني له. والطريق ليس جيداً، لا مسار ولا مآل.
- آخر تحديث :
التعليقات