ليس ثمة أسرار في اجتماع أبو مازن وبيني غانتس، الأحد الماضي، رغم أنه عقد في العاشرة مساءً وفي غياب وسائل الإعلام، ولكنه كان اجتماعاً على شرفة ومزوداً بمضخمات صوت، أقرب الى لوحة لتعليق الإعلانات يجري الإعداد لها بتمهل أمام المارة، ذلك هو الهدف الرئيسي من وراء وصول وزير الحرب الإسرائيلي مصحوباً بضابط الإدارة المدنية غسان عليان الى مبنى "المقاطعة" في رام الله، ليلتقي الرئيس الفلسطيني ومدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، المسؤول عن العلاقات مع سلطات الاحتلال.
وليس ثمة مفاجأة أيضاً، الفكرة جاءت، بحسب الصحافة الإسرائيلية، من مدير "السي اي ايه" وليام بيرنز الذي كان في زيارة المنطقة قبل أسابيع، بيرنز بدوره بنى اقتراحه على تقرير هادي عمرو حامل الملف الفلسطيني الإسرائيلي في إدارة بايدن، الذي سبقه والتقى أطرافاً من المؤسسات الرسمية وممثلين عن مؤسسات أهلية وناشطين مدنيين، وأطلق ما يعرف الآن بسياسة "بناء الثقة"، السياسة التي دشن لقاء عباس غانتس إحدى محطاتها.
تكسر زيارة غانتس رام الله أحد الأعمدة الرئيسية التي انبنت عليها سياسة نتنياهو القائمة على تجاهل السلطة الفلسطينية، ووضع الحلول والأفكار من جانب واحد على قاعدة أن لا شريك في الجانب الآخر، وهي استكمال لسياسة أرئيل شارون التي ظهرت بوضوح في الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وإخلاء التجمعات الاستيطانية فيها، سياسة استمرت ما يقارب الـ11 عاماً، لم يحدث خلالها أي لقاء بين مسؤولين كبار من الجانبين، لو استثنينا اللقاء الذي جمع تسيبي ليفني مع أبو مازن في لندن 2014، عندما كانت وزيرة العدل في حكومة نتنياهو ومكلفة بالملف التفاوضي، أبلغ نتنياهو بالاجتماع في حينه، ولكنه أبدى غضبه من حصوله، رغم أن هدف ليفني كان الاحتجاج مباشرة وإبداء القلق على أحد اتفاقات المصالحة بين منظمة التحرير و"حماس"، وهو الأمر الذي تكرر مع بينيت هذه المرة أيضاً، الذي بالغ في غضبه، رغم تبليغه مسبقاً بالاجتماع، وذهب الى معاقبة غانتس بحرمانه من التحدث باسم الحكومة في جلسة الموازنة في الكنيست، وكلف أحد وزراء حزبه بتمثيل الحكومة.
كانت سياسة نتنياهو قائمة على قاعدة أن لا أهمية للحديث مع رام الله، ودفع السلطة لتغرق في مشكلاتها الاقتصادية والداخلية ومفاقمة عجزها، وإضعافها شعبياً الى الدرجة التي يصبح الاحتلال أحد عوامل بقائها، إضعافها أمام "حماس" وخصومها بحيث يصبح الاحتلال مظلة حمايتها، هلهلتها أمام الإقليم والمحيط الدولي بحيث يختفي دورها خارج الخدمات المطلوبة من مجلس بلديات محلي، هذا التجاهل بلغ ذروته خلال سنوات إدارة ترامب وفريقه، ودفع بنود "صفقة القرن" في المنطقة، لقد نجح، الى حد ما، في إخفاء السلطة ومنظمة التحرير من المشهد الإقليمي والقفز عنها ودفعها أبعد نحو العتمة.
غانتس هبط بالضبط في هذه المحطة، وصل الى المقاطعة في اللحظة بين انهيار السلطة وتعلقها بالحواف، جاء لينقذ السلطة الفلسطينية، ليمنحها فرصة لتمديد وجودها عبر سلسلة من الوعود الأمنية والاقتصادية، سيجري الاحتيال على قرصنة أموال الضرائب التي احتجزتها إسرائيل، بحيث تتحول الأموال المحتجزة الى قرض بـ 150 مليون دولار، وتفرج إسرائيل عن 5 آلاف طلب للمّ شمل العائلات من العالقين في الضفة من غزة والشتات، ومنح تصاريح لـ15 ألف عامل، بحيث يصل عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل الى ما يقارب 140 ألفاً، ومنح تراخيص للفلسطينيين لبناء ألف وحدة في مناطق سي...
كل هذا وسواه من الجدول الأمني والاقتصادي نفسه أعلنت عنه السلطة بصفته "إنجازات" ومكاسب تم الحصول عليها كمقدمة لتسهيلات أكبر، تطال في معظمها الجانب المعيشي، وستنعكس على الشارع الفلسطيني على شكل رواتب للموظفين وفرص عمل للعمال ولمّ شمل للعائلات، كما رشح من الاجتماع أن أبو مازن طلب عدم اقتحام المدن من قبل جيش الاحتلال والحد من اعتداءات المستوطنين على القرى والطرق.
الباقي من جدول الاجتماع الذي استغرق ساعتين ونصف ساعة، يكاد يكون معروفاً ويتمحور حول رفع مستوى التنسيق الأمني.
بينيت العائد من البيت الأبيض من دون ريش تقريباً وبكثير من سوء الحظ، بعدما حصل بمشقة على 25 دقيقة في جدول أعمال بايدن الممتلئ بجثث المارينز في كابول، اختصر كل شيء عبر تصريحه أمس، وهو الثالث من نوعه في أسبوع واحد، حول لقاء رام الله: "تسهيلات اقتصادية.. نعم، اتفاقيات سياسية.. لا".
التعليقات