جاءت ولادة الحكومة اللبنانية بعد أشهر من التعطيل والصراع على الحصص في لبنان، لتثبت نيل رئيس الجمهورية ميشال عون، الثلث المعطل، القادر على التحكم بقرارها وإدارتها، وإن كان رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي يؤكد أن ثلثي الحكومة معه. النقطة الإيجابية الوحيدة هي الولادة وعملية التشكيل التي استغرقت مع ميقاتي نحو شهر ونصف شهر، فيما بقي البلد في الفراغ 13 شهراً بعد استقالة حكومة حسان دياب السابقة في منتصف آب (أغسطس) 2020. وهذه الإيجابية هي أنه أصبح للبلد حكومة عليها أن تتحمل المسؤولية وتعيد تفعيل مؤسسات الدولة، من دون أن ينتهي الاشتباك السياسي والنزاع، ما دام توزيع الحقائب الوزارية قام على المحاصصة، وإن كان عدد من الوزراء من أهل الاختصاص لكنهم يمثلون جهات سياسية وطائفية سيعودون إليها عند كل مشروع واستحقاق، وهذا يعني أن الحكومة غير متجانسة.

ما تكرّس على الأرض في مرحلة الفراغ، وما حققه رئيس الجمهورية باستعصاءاته الحكومية وتكريسه لصلاحيات الأمر الواقع لن يتراجع عنها، وهو سيستمر في ترؤسه جلسات مجلس الوزراء لتثبيت الأمر الواقع، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الحكومة لديها خطة للإنقاذ. فالرئيس ميشال عون يسعى الى انتزاع صلاحيات جديدة للوصول الى ما يعتبره بالأمر الواقع نظاماً رئاسياً، وإن كان يحتاج الى تعديلات دستورية، إلا أن الثلث المعطل كفيل بتوجيه الأمور والعمل الحكومي نحو مسارات لمصلحة الرئيس وتياره وحليفه "حزب الله".

ولادة الحكومة لن يغيّر ما اشتغلت عليه القوى السياسية والطائفية من تموضع ضمن بيئاتها، ومحاولة تحسين شروطها خلال التفاوض على تشكيل الحكومة. لكن الأقوى يبقى الناظم للوضع اللبناني العام، ويتولى الوصاية على الحكم والقرار. والأقوى اليوم هو "حزب الله" الذي تمكن من استجلاب النفط الإيراني ويستثمر من خلاله في الداخل اللبناني، فيما حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره الوطني الحر يستثمران في الموقع الرئاسي الأول، وهو استثمر في التعطيل بالثلث المعطل مانعاً تشكيل الحكومة إلا بشروط صعبة ومستحيلة أحياناً، وساهم تشدده في استنفار القوى الطائفية الأخرى بمختلف حلقاتها، فاجتمع الجميع على الانهيار ولم يقو أحد على القول إنه مستعد للتسهيل والتنازل من أجل تأليف حكومة قادرة على الإنقاذ، إلى أن فعلت الضغوط الخارجية فعلها والداخلية أيضاً عبر الناظم الأقوى، فخرج الدخان الأبيض معلناً ولادة قيصرية فيها كل عناصر التفجير الداخلي، وإن كان وجود حكومة يبقى أفضل بكثير من الفراغ.

يسهل تعطيل البلد والنظر إلى الانهيار من موقع القوة، حين يتمسك رئيس مؤتمن على الدستور باستعصاءاته ويتصرف كطرف سياسي وليس من موقع الحكم. هذا ما شهدناه في كل الملفات المتزاحمة في الموزاييك اللبناني. فإذا كانت الأجواء الإقليمية والدولية قد ساهمت في حسم الأمور وقول كلمة الفصل في التشكيل، فيما الحل لمشكلات البلد لم يحن وقته بعد، فإن الأمور تفتح على اتجاهات أخرى ومسارات كانت حتى الأمس القريب من خارج التوقعات. وها هي ملفات لبنانية تعود للارتباط بسوريا، فبعد زيارة الوفد الرسمي اللبناني لبحث ملف نقل الغاز المصري واستجرار الكهرباء الأردنية عبر سوريا، فُتح البازار اللبناني لترتيب مواعيد زيارات لوفود لدمشق، كان آخرها زيارة وفد درزي ممانع، وكأن البعض في لبنان يريدون عودة العلاقة مع النظام السوري لتحسين أوراقهم. وقد يجري ترتيب زيارة لرئيس الجمهورية ميشال عون لدمشق إذا سارت الأمور كما يشتهي لبنانياً بعد تثبيت شروطه حكومياً على مسار التأليف، وأيضاً في ما يتعلق بالصلاحيات والهيمنة وتكريس أعراف وتقاليد الأمر الواقع. وفي الواقع أي تواصل مع النظام السوري سياسياً على المستوى الرسمي في لبنان، وذلك بمعزل عن زيارة الوفد الأخير الذي له خاصية تتعلق بالكهرباء، علماً أن اتفاق نقل الغاز واستجرار الكهرباء لم يوقع رسمياً، له تداعيات على مواقع القوى والنفوذ في الداخل اللبناني، وأيضاً في ما يتعلق بالعلاقة مع المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية التي لم ترفع العقوبات ولا حددت استثناءات متعلقة بقانون قيصر. وعلى المستوى الداخلي، أي تطور للعلاقات اللبنانية مع النظام السوري سيضع ضغوطاً على الرئيس نجيب ميقاتي، وهو أمر لا يستطيع تحمله ضمن البيئة السنية ولا في موقع رئاسة الحكومة، وهي ترتب خسائر كبيرة عليه.

وإذا كان التعطيل الحكومي مؤشراً على الانهيار، فإن ولادة الحكومة لا تعني أن الإنقاذ بات بمتناول اليد. فالاستعصاء الذي تصدّره ميشال عون، وكل القوى التي طالبت بالمحاصصة، يفتح أسئلة ليس على العلاقة اللبنانية بالمجتمعين العربي والدولي فحسب، بل أيضاً في وضع الدولة المتهالكة. والواقع أن ميشال عون الذي كان ممسكاً بورقة إصدار مرسوم الحكومة، سيبقى على تصلبه وليس في وارد التنازل عن أي نقطة كان حققها كمكتسب له في السابق. فهو كان قد دفع الرئيس المكلف السابق سعد الحريري الى الاعتذار وقبله مصطفى أديب، واليوم يخوض معركته ضد كل قوى اتفاق الطائف، مستنداً إلى ما اعتبره نصراً في معركته للبقاء في قصر بعبدا الرئاسي وتأمين مستقبل صهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يطمح للرئاسة، على الرغم من تراجع حظوظه ورفضه من غالبية المكوّنات اللبنانية.

المخاوف أيضاً أن تكون وجهة العلاقة مع النظام السوري هي محاولة تسويق باسيل للرئاسة، علماً أن ما يحيط بالوضع اللبناني اليوم يختلف عما كان عليه عند تولي ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية عام 1988. ولذا ستبقى محاولاته قائمة لإلغاء اتفاق الطائف، حتى بنقل المعركة إلى مجلس النواب وخوضها، وربما هذه المرة بدعم سوري وبمعزل عن موقف "حزب الله" المتحالف مع حركة أمل، لكن ذلك ربما يكون أحد العناوين التي قد يحملها عون لاستعادة علاقته بالنظام السوري وزيارته دمشق.

أمام الحكومة مشوار طويل للقول بعد إقرار بيانها الوزاري إنها قادرة على وقف الانهيار، وكيف ستواجه التحديات الكبرى، وإعادة الاستقرار والسير نحو الإنقاذ، وإلى حينها يستمر الصراع السياسي والطائفي، ومعه يفقد البلد تدريجاً كل تاريخه...