تشدد حزب العمال البريطاني وأدواته الإعلامية وغيرها في الضغط لدرجة الخصومة على حكومات حزب المحافظين المتوالية لغاية مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستغل كثرة المشاكل والضغوطات التي كانت تعاني منها بريطانيا في ذلك الوقت، وأضعف قدرتها على الحفاظ والتمسك بشبكة مصالح بريطانيا، ومنها المستعمرات والمحميات حول العالم مما مهد الطريق لسياسة الانسحاب من أغلب المناطق التي كانت تتواجد فيها أو ما يعرف «بسياسة شرق السويس» في العام 1968، بسبب تراكم الخلافات المحلية بين الأحزاب وزيادة كلفة إدارة الإمبراطورية البريطانية مقابل تقلص الإمكانيات.

في ذلك الحين، حزب العمال لم يراعِ المصالح البريطانية إنما ركز على مجموعة من القيم المتوافقة مع «تصورهم» لما يشكل بريطانيا، هذا التعريف «المتصور» شكل لب سياسة حزب العمال أثناء فترة رئاستهم حكومة صاحبة الجلالة ولذلك تخلت بريطانيا في تلك الفترة عن كثير من مقوماتها ومصالحها، مما أنتج وضعًا مختلفًا كثيرًا، أصبحت فيه الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس مجرد بريطانيا العظمى، ومنذ ذلك الوقت تعاني بريطانيا من محاولة حماية ما تبقى لها من نفوذ ومصالح وقوة بدل زيادتها كما كانت تفعل.

وهذا بالضبط ما يحصل اليوم مع الولايات المتحدة الأمريكية عندما أتى الحزب الديمقراطي للحكم في أمريكا من بعد مرحلة جورج بوش الابن وما خلفته مرحلته من أضرار بالغة على سمعة ومكانة أمريكا، أتى الحزب الديمقراطي في مرحلة أوباما بمنظومة قيم بدل منظمومة المصالح الأمريكية مما ساهم بتخلي أمريكا عن كثير من مواقع قوتها وأدواتها مقابل محاولة فرض منظومة القيم «المتصورة» والمتناقضة على أساس أنها الضمانة لاستمرار زعامتهم للعالم وليست المصالح وأدوات القوى ومقومات الهيمنة التقليدية.

بريطانيا لم تنهر، كما انهار الاتحاد السوفيتي، إنما أصبحت أقل قدرة على فرض إرادتها ومصالحها على العالم وأصبحت أقل قدرة على التأثير وأقل نفوذ وبالتأكيد لم تعد القوى المهيمنة الأولى، وكذلك أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تنهار كما انهار الاتحاد السوفيتي إنما بالتأكيد لم تعد تلك الدولة التي تفرض إرادتها على العالم ولم تعد تستطيع حماية مصالحها بنفس السهولة وخسرت كثيرًا من ما يسمى في العلاقات الدولية «سياسات المكانة» وستخسر أكثر إن لم توازن بين سياسات منظمومة القيم ومنظومة المصالح في وقت تحاول عدد من الدول ملء الفراغ الأمريكي.

وطبعًا لا يعني هذا الكلام أن حزب العمال البريطاني أو المحافظين وكذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي أو الجمهوري أفضل أو أسوأ، إنما يعني أن في فترة زمنية تراكمت فيها الخلافات المحلية لدرجة أصبح مجرد معاكسة سياسات الحزب الاخر هدف بحد ذاته بدون مراعاة انعكاس ذلك على مصالح الدولة الوطنية ومما عقد تعامل وثقة الدول الأخرى في التعامل معهم كدولة لها مصالح او كمنظومة قيم قد تناسبهم وقد لا تتوافق معهم. وفي وقت كانت تعاني الدولة (سواء بريطانيا أو أمريكا) من تحديات متعددة زادت من تكلفة إدارة المصالح، اعتقد الحزبان العمالي ما بعد الحرب العالمية الثانية والديمقراطي في العقدين الاخيرين ان استبدال منظومة المصالح بمنظومة قيم هو ما يشكل المخرج الاخلاقي المناسب ويسهل عليهم ادارة السياسة الخارجية لدولهم، ولكن النتيجة كانت انهم تخلوا عن اهم مقومات ما جعلهم يتسيدون العالم، وهي بالطبع لم تكن منظومة القيم.

مازال بإمكان الولايات المتحدة الامريكية استيعاب ما سبق وتجنب النتيجة الحتمية إن لم تصحح سياساتها كما حصل مع بريطانيا، انما ما يعنينا نحن من كل ذلك اننا أمام نظام عالمي يشهد تحولا شبيها بما حصل في نهاية الستينيات عندما تحولت فيه بريطانيا من قوى عظمى الى دولة قوية ضمن نظام عالمي متعدد ومتنافس. في ذلك الوقت استطاعت دولنا ان تعزز من استقلالها وبناء ادوات القوة التي تحتاجها للتعامل مع النظام العالمي الجديد ومع التحديات الاقليمية مما نتج عنه تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية وشبكة تحالفات جديدة كان للولايات المتحدة الامريكية النصيب الابرز منها.

لذلك يجب علينا ان نعي كل هذه التحولات الحالية ونستخلص العبر التاريخية ونسرع في امتلاك الادوات المطلوبة التي تمكننا من التعامل مع الواقع الجديد بما في ذلك تأسيس منظومة امنية اقليمية قادرة على التعامل مع التحديات الراهنة والمستقبلية بمرونة وفعالية اكبر ومن منطلق قوة لا حاجة، وان نمتلك ادوات التأثير والنفوذ الذي يمكننا من تعزيز مصالحنا لا مجرد حمايتها.