في شهر أبريل (نيسان) من السنة الجارية، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إن «مستقبل لبنان بيد اللبنانيين... لم يعد الوضع القائم فيه قابلاً للحياة، ولا تشعر المملكة بأنه من المناسب الاستمرار في دعم الوضع الحالي حيث يسيطر لاعب غير حكومي، أي (حزب الله)، على السلطة بحكم الأمر الواقع... فيما لا تفعل الطبقة السياسية شيئاً يُذكر للتعامل مع التحديات التي يواجهها الشعب اللبناني».

بعد ستة أشهر، قطعت المملكة علاقاتها مع لبنان مؤكدةً أنها أصبحت «غير مجدية»، ولحقتها غالبية الدول الخليجية بعد بث تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي قبل شهر من تسلمه منصبه الوزاري، هاجم فيها السعودية واتخذ مواقف عدائية تجاهها كما تجاه الإمارات حين عدّ قيادتها للتحالف العربي ضد الحوثيين اعتداءً على اليمن.

لا شك أن تصريحات قرداحي ليست سبب القطيعة، بل هي نقطة الماء التي أفاضت الكأس، والشرارة التي أشعلت ناراً تحت رماد الموقف الخليجي المستاء من الهيمنة الإيرانية على لبنان منذ سنوات.

بدايةً ومن دون مبالغة، لعل الأزمة الأخيرة مع دول الخليج لا تقل أهمية عن الأحداث الجسام المزلزلة التي عصفت بلبنان وقاسمها المشترك «حزب الله»، كاغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وجر لبنان إلى حرب يوليو (تموز) عام 2006، وغزوة القمصان السود في 7 مايو (أيار) عام 2008، وتبخر أموال المودعين في المصارف اللبنانية، وتفجير مرفأ بيروت، وحادثة الطيونة الأخيرة، وهذا غيض من فيض. فما جرى غير مسبوق في تاريخ علاقات لبنان الحديث مع الدول العربية التي مرّت بمراحل توتر نتيجة لأسباب مختلفة، أبرزها التنافس المصري - السوري خلال وبعد الوحدة بينهما في ستينات القرن الماضي إبان عهد جمال عبد الناصر، إلى العلاقات مع البعثين السوري والعراقي، إنما لم تصل مرة إلى الدرك الذي وصلت إليه اليوم وهو في حضن محور الممانعة الإيراني. وما موقف (أو اللاموقف وعجز!) رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي مما يجري سوى تأكيد لسقوط البلاد تحت الهيمنة الإيرانية الكاملة عبر «حزب الله»، ليس فقط بسلاحه إنما أيضاً بما كان قد بشّرنا به سابقاً رئيس كتلته النيابية محمد رعد بالمجتمع والاقتصاد المقاومين.

يستثيرنا البعض من سياسيين وإعلاميين وكتّاب عندما، وبكل فجاجة، يُنكرون أن لبنان بات في الفلك الإيراني وأن «حزب الله» يسيطر على مفاصل الدولة لدفعنا إلى تجاهل الفيل في الغرفة. ويستثيروننا أيضاً عندما يحوّرون وقائع الماضي والحاضر ليحوّلوا الأبيض أسود والأسود أبيض في سفسطائية قلّ نظيرها، يصبح معها «حزب الله» جمعية خيرية ولبناني المنشأ والمعتقد والهوى ولا روابط إقليمية ودولية له! ويستثيروننا أيضاً عندما يبالغون بمآثر الحزب كوصف معركة جرود عرسال بأنها أنقذت لبنان والمنطقة من براثن «داعش»، متهمين دول الخليج بخلق هذا التنظيم، متناسين أن عدداً من قادة «القاعدة» عاشوا أو يعيشون في إيران وأن بشار الأسد هو من أطلق المتشددين من سجونه ليشكّلوا كل أطياف الجماعات الجهادية كـ«داعش» وأخواتها.

إن الخلاف اللبناني - الخليجي مفصليٌّ، وهو يحمل دلالات لبنانية وإقليمية ودولية عدة.. أكثرها أهمية لبنانياً أنه صوّب البوصلة وأعاد توجيه النقاش إلى جوهر مشكلة لبنان التي وصّفها وزير الخارجية السعودي بسيطرة «حزب الله» والمحور الإيراني على لبنان كلياً. وثانية الدلالات وأخطرها هي إمعان الحزب بإضعاف القادة السنة وإحراقهم الواحد تلو الآخر، والإفادة من تسابق الأطراف المسيحية على اختلافها لتقديم أوراق اعتمادها إليه وعيونها شاخصة إلى انتخابات تشريعية ورئاسية لن تقدّم ولن تؤخّر.

الدلالة الثالثة هي تأكيد سقوط دلع اللبنانيين، وهم الذين لطالما «كسروا أيديهم» بمقولة إنهم مغلوبون على أمرهم بوجود «حزب الله»، مقولة أعاد وزير خارجية لبنان عبد الله بو حبيب تأكيدها عندما قال إن مسألة الحزب إقليمية وإن لبنان عاجز عن حلها. وينسحب هذا الدلع على محاولة اللبنانيين إقناع العالم بأن الحكومة شيء، و«حزب الله» شيء، والشعب اللبناني شيء آخر، وأنه لا تجوز معاقبة الحكومة واللبنانيين على ممارسات الحزب داخلياً وإقليمياً ودولياً. طلب غريب عندما يكون الحزب هو مَن شكّل الحكومة، وله ولحلفائه فيها حصة الأسد. ولا ننسى أداء الرئيس ميقاتي إبان تأليف الحكومة التي راعت تشكيلتها رغبات دول كثيرة بينها فرنسا وبعض العرب، في تجاهل مطلق لدول الخليج، فجاءت حكومة لـ«حزب الله» المشكو من ممارساته الإقليمية منذ فترة طويلة. ناهيك بكون رئيس الجمهورية حليفه الأساس، وجزء من اللبنانيين انتخبوا نوابه والجزء الآخر يتقاعس عن الإشارة إليه كسبب رئيس لانهيار الدولة.

والدلالة الرابعة أنه ظهّر لبنان كمساحة جغرافية تسكنها مجموعة من الناس باتت معتادة على تدبير أمورها الحياتية بنفسها، فلا وجود لكيان ولا لدولة ولا لحكومة.

أما الدلالات الإقليمية والدولية فتتصدرها مآلات المحادثات السعودية - الإيرانية، فطريقة الرد السعودي تشير إلى تعثرها بخلاف ما توحي به بعض الأصوات الإيرانية، والأسباب متعددة، منها إصرار إيران على تعزيز مكاسبها باستخدام ميليشياتها المسلحة، وعدم اليقين بشأن مصير مفاوضات الملف النووي وتمسك طهران بتطوير الصواريخ الباليستية المهدِّدة للمملكة وغياب الضمانات الأمنية من الولايات المتحدة.

الدلالة الثانية هي الميليشيا الحوثية وما تشكله من تهديد لأمن السعودية الاستراتيجي، لا سيما بعد تجاهل الدول الغربية الغريب للمجازر التي يرتكبها الحوثيون للسيطرة على مأرب أو استهدافهم المتكرر للعمق السعودي من دون اتخاذ مواقف جدية باستثناء الاستنكار ببيانات تصدرها السفارات.

الدلالة الثالثة هي موقف الغرب بعامة وفرنسا وأميركا بخاصة من «حزب الله». فقد دعموا هذه التشكيلة الحكومية علماً بأن «حزب الله» هو ركنها الأساس، ومستمرون في دعمها بعد الأزمة مع السعودية، فيما يتباهون بفرض عقوبات لا تسمن ولا تغني على كيانات وأفراد لارتباطهم به. هذه الحكومة العقيمة معطَّلة اليوم لأن الحزب قرر ذلك: إما أن تستجيب لمطلب إقالة قاضي التحقيق طارق البيطار وإما لا جلسات!

الدلالة الرابعة هي مواصلة الإدارة الأميركية الجديدة نهج إدارة الرئيس باراك أوباما بالتعاطي مع الملف النووي الإيراني، أي التغاضي عن الممارسات الإيرانية المزعزعة لأمن الإقليم لتعود إلى اتفاق 2015، علماً بأن الوقائع تغيّرت والمفاوضات الحالية بدأت من تخصيب إيران لليورانيوم بنسبة 20%، وتجري في ظل انكفاء أميركي عن المنطقة وتخبُّط في سياستها الخارجية، وتمدد روسي وصيني فيها لم تشهده من قبل. هذا النهج يتيح لإيران كما سابقاً تثبيت مكاسبها في المنطقة ومواصلة ابتزاز الغرب ببرنامجها النووي فيما عيناها موجهتان على تجذير وجودها سياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً في الإقليم. هذا التخلي الدولي أخطر من المقاطعة الخليجية المعروفة الأسباب والواضحة الأهداف: دعوة لبنان إلى أخذ قراره بيده والتحرر من سطوة «حزب الله» أو أقله وقف استهداف الدول الخليجية عبره.

نفهم موقف السعودية ودول الخليج العربي، إنما الخوف من الطبقة السياسية اللبنانية العقيمة والمفلسة في أن يجعل البلاد فريسة لمزيد من التغوّل الإيراني. في المحصلة، لسنا وراء مساعدات ومصالح اقتصادية سعودية وخليجية على أهميتها، إنما فيصلنا هو المفاضلة بين من يسعى إلى التنمية والتطور والانفتاح وولوج الحداثة والتطلع إلى المستقبل، وبين العزلة والفقر ومخاصمة العالم وابتزازه. من هنا، بين السعودية وإيران تربح الرياض وتسقط طهران.