يقال “لكل زمانٍ دولةٌ ورجالُ”، وعلى هذا أصبح لدولة العراق الجديدة، هذه الأيام، رجالُها الذين يشبهونها.

فمن عجائب العراق السبع أن الذين كانوا بالأمس يدافعون عن المنطقة الخضراء، ويخافون على هيبة العملية السياسية، ويمنعون العاطلين عن العمل والمطالبين بلقمة العيش من الاقتراب من بواباتها، ويكمنون لنشطائهم، ويغتالون أشجع شبابهم بالكواتم أو بالسكاكين أو بالرصاص الحي، هم الذين يتظاهرون، هذه الأيام، ويغلقون بوابات المنطقة الخضراء، ويرمون ضباط جيش العملية السياسية وجنودها بالحجارة، ويهتفون ضد رئيس حكومتها، ويتهمونه بالتآمر والخيانة والعمالة للأجنبي، ويطالبون الهيئة المستقلة للانتخابات وقضاء فائق زيدان ومدحت المحمود بالعدالة والإنصاف وهم صاغرون.

وبتدقيق المواجهات الجارية وأساليبها وأدواتها لا بد من ملاحظة أمرٍ مهم. فالظاهر أن إيران غير داخلة في حرب الحجارة الدائرة بين مصطفى الكاظمي وبين ميليشياتها، وأنها مكتفية بمراقبتها عن بُعد، وانتظار نتائجها، بالتي هي أحسن.

فلو كانت هذه الحرب هي حربها لوجدتم فيها اختلافا كبيرا، ولكان لها شكل آخر وطعم مختلف.

جماعة محمد الحلبوسي والكتلة الكردية في مأزق لا تُحسدان عليه. فلن تجرؤ أيٌّ منهما على الانحياز إلى جبهة نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي، فتخسر جمهرة الفائزين

فالمعروف والثابت أنها لا تستطيع أن تتحمل تبعات خروجها من العراق. وإذا ما لاح لها خطر جدي وحقيقي على وجودها، من أي نوع ومن أي لون، فلن تدع وكلاءها المسلحين يحاربون، وحيدين، وبدون مرشد أو معين، فيرتكبون الحماقة تلو الحماقة، ويتهورون، فيصنعون هزيمتهم على مراحل، ويتسببون لها بنهايةٍ مهينة تعني لها الكبير والكثير.

فالوليُّ الفقيه المصرُّ على إعادة إحياء عظام الإمبراطورية الفارسية وهي رميم، ورئيس الجمهورية المتمرس بالقتل الجماعي، وحرسُها الثوري المُصدّر الأول للموت إلى دول الجوار، لن يخوض حربا بالحجارة، ولا حتى بالمسيّرات الفاشلة التي لا تصيب الهدف.

فليس مستبعدا أن تكون ضرورات إنجاح مفاوضات الملف النووي الإيراني مع الولايات المتحدة قد تطلبت من إيران أن تقدم تنازلا في العراق، يجعلها تقف على مسافة واحدة من المتقاتلين، وتنتظر النتيجة، ما دامت وصايتها الحالية المالية والأمنية والسياسية ماشية على الحكومة والشعب، وبلا ميليشيات، ولا مواجهات، ولا انتفاضات، ولا وجع رأس.

ففي نظر الحرس الثوري لا توجد هناك خيبة وحماقة وغوغائية أكثر من إقدام أبنائه الخاسرين في الانتخابات على تحميل شاحنات عديدة بالحجارة، وجعلها خلف المتظاهرين (السلميين) لاستخدامها في مقاتلة جيش الحكومة وقواتها الأمنية المسلحة.

ثم حين أدركوا أن الحجارة لم تنفع، وأنها ارتدت عليهم، وجعلت جنود الكاظمي يشتمون خامنئي والحشد الشعبي وهم يرمونهم بالرصاص الحي، أقدموا على حماقة أكبر وأكثر خيبة، فأرسلوا ثلاث مسيَّرات إلى منزل عدوهم لاغتياله، أملا في خلط الأوراق وإدخال الوطن في دوامة عنف تنتهي بغزوهم المنطقة الخضراء، وتسلّمهم السلطة، على طريقة رفاقهم الحوثيين.

إن الاشتباكات المسلحة التي جرت على بوابة المنطقة الخضراء الرئيسية، بالحجارة وبالرصاص الحي، ومحاولة الاغتيال هي إعلان رسمي عملي عن فك الارتباط بين الميليشيات وبين الحكومة وجيشها وقواتها الأمنية، وحتى القضاء.

فمن الطبيعي أن تُتّهمَ الميليشياتُ الولائية بتدبير المحاولة. فليس غيرها من يملك المسيّرات، خصوصا وأن قيس الخزعلي، رئيس عصائب أهل الحق، أحد فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران، كان قد حذر، في تغريدة الجمعة الماضي “من محاولات أطراف مرتبطة بجهات مخابراتية تخطط لقصف المنطقة الخضراء وإلقاء التهمة على فصائل المقاومة”.

وهنا نتوقف. فسواءٌ ثبتت التهمة على الفصائل أو لم تثبت، فإن قادتها بتصرفاتهم وانفعالاتهم وتهديداتهم، أثبتوا أنهم نتوءات طفيلية غوغائية نبتت في غفلة من الزمن على جسد المجتمع العراقي، وقد آن لها أن تقتلع من جذورها.

والآن، وبعد ما جرى وما سيجري في قادم الأيام، صار واضحا أن العراق مقبل على فراغ برلماني وحكومي قد يدوم طويلا جدا ويبقي رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، والرئيس برهم صالح يديران الدولة دون برلمان، بحكم الأمر الواقع، ووفق ما نص عليه الدستور. وهذه خسارة أخرى تضاف إلى خسارة الولائيين تجعلهم أقل حظوة لدى حكومة الولي الفقيه، فلن يتحقق الوصول إلى تشكيل الكتلة الأكبر، لا من الخاسرين ولا من الفائزين.

فجماعة محمد الحلبوسي والكتلة الكردية في مأزق لا تُحسدان عليه. فلن تجرؤ أيٌّ منهما على الانحياز إلى جبهة نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي، فتخسر جمهرة الفائزين لأن انحيازُهما لمعسكر الولائيين يعني معاداة الشارع العراقي ومواجهةً خاسرة مع قوة برلمانية فائزة قد تعرقل تشكيل البرلمان.

الظاهر أن إيران غير داخلة في حرب الحجارة الدائرة بين مصطفى الكاظمي وبين ميليشياتها، وأنها مكتفية بمراقبتها عن بُعد، وانتظار نتائجها، بالتي هي أحسن

كما أن انضمامها إلى جبهة مقتدى الصدر الذي يجاهر بمنع تدخل الدول الجارة في شؤون العراق، وبسحبِ سلاح الميليشيات (الوقحة)، وبمحاكمةِ المختلسين، والتحقيق في قتل المتظاهرين، سوف يضعهما في مواجهة الميليشيات وإرهابها ومسيَّراتها، وهو ما سوف يؤدي بالضرورة إلى عدم اجتماع البرلمان لانتخاب رئيسه ورئيس الجمهورية. وهو ما يعني بقاء العراق ربما شهورا عديدة في دوامة عنف دائرة ودائمة لا تنتهي في زمن قصير.

وقد تكون تغريدة الكاظمي على تويتر بعد نجاته من محاولة الاغتيال إعلانا عن مرحلة ملاحقة أبطال الحجارة، “كنت وما زلت مشروع فداء للعراق، وصواريخ الغدر لن تثبط عزيمتي”.

وفي بيان شديد اللهجة، وصف مجلس الوزراء محاولة الاغتيال بـ”الإرهابي الجبان”، واعتبرها “استهدافا خطيرا للدولة على يد جماعات مسلحة مجرمة قرأت ضبطَ النفس والمهنية العالية التي تتحلى بها القوات الأمنية والعسكرية ضعفا، فتجاوزت على الدولة ورموزها، واندفعت إلى التهديد الصريح للقائد العام”.

إذن، وأيا يكن ما ستأتي به الأيام القادمة، فإن مسيرة الألف ميل نحو خلاص العراق من كوابيسه المسلحة قد ابتدأت ولن تتوقف بأي حال من الأحوال.