من نافلة القول إن إيران دولة إقليمية كبيرة في مساحتها وسكانها، عريقة في تاريخها، متنوعة في تضاريسها، متعددة في أعراقها، غنية في ثرواتها النفطية والزراعية والحيوانية والمائية. وبعبارة أخرى، فإنها تملك كل مقومات النهوض والبروز والمشاركة كعنصر فعال في المجتمع الدولي من أجل خير شعوبها وشعوب المنطقة. غير أن ما يعيق قيامها بهذا الدور هو نظامها السياسي الذي يسعى إلى التخريب والافساد وزعزعة الأمن والاستقرار وفق أجندة إرهابية توسعية طائفية، وأوهام وخرافات دينية ما جعل إيران معزولة ومنبوذة ومشكوك في تصرفاتها ومقيدة بسلسلة من العقوبات الدولية، من بعد أن كانت قبل أربعة عقود بلادا لها مصداقيتها واقتصادا يشار إليه بالبنان، وشعبًا محسودًا على معيشته ورفاهيته.
لقد انقلبت أوضاع هذه البلاد رأسًا على عقب منذ تغير نظامها السياسي سنة 1979، فراحت تنحدر إلى الهاوية عامًا بعد عام، وراح شعبها بالنتيجة يئن من الفقر والجوع ونقص الخدمات علاوة على القمع الممنهج. وبطبيعة الحال فإن نظامها السياسي المتسربل برداء ديمقراطية صورية وشعارات فضفاضة فارغة لم يجد أمامه وسيلة للتهرب من العقوبات المفروضة عليه إلا باللجوء إلى الأساليب الملتوية التي كان آخرها أسلوب المقايضة الذي يعيدنا من جهة إلى عصور ما قبل ظهور النقود كوسيلة للدفع والمبادلات، أو عصور الانهيارات المالية الكبرى، ويذكرنا من جهة أخرى ــ رغم الفارق ــ ببرنامج «النفط مقابل الغذاء» الذي أقره مجلس الأمن الدولي عام 1995 لمساعدة النظام العراقي السابق في تصدير جزء من نفطه كي يتمكن من استخدام العائدات في استيراد الاحتياجات الإنسانية.
والمقايضة، كما هو معروف، نوع من أنواع المعاملات القديمة بين البشر، ونظام يعتمد على مبادلة شيء بشيء آخر، فمن يملك شيئًا لا يحتاجه أو يفيض عن حاجته ويريد شيئًا بحوزة شخص آخر يقايض هذا الشخص، وبالتالي فهو يقع في نطاق ما يسمى بـ«بيع العين بالعين».
وهذا ما فعله النظام الإيراني مؤخرًا حينما توصل إلى اتفاق مكتوب مع حكومة سريلانكا تتعهد الأخيرة بموجبه بتصدير شحنات شهرية من منتجاتها من الشاي إلى إيران مقابل نفط إيراني استوردته في الماضي بقيمة 250 مليون دولار. وبهذا تحايلت طهران على العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأممية المفروضة على قطاعيها البترولي والمصرفي، وتفادت استخدام احتياطاتها من العملات الصعبة في استيراد الشاي، وتجنبت احتجاجات شعبية متوقعة في حال اختفاء هذه السلعة من الأسواق، خصوصًا وأنها سلعة لا يستغني الإيرانيون عنها بدليل أن معدل استهلاكهم السنوي منها يصل إلى مائة ألف طن.
والحقيقة أن سريلانكا، التي تنتج نحو 340 مليون كلغ من الشاي سنويًا، وصدرت إلى الخارج في عام 2020 نحو 265.5 مليون كلغ، بأرباح بلغت 1.24 مليار دولار، وافقت على هذه الصيغة وهي مطمئنة لتبعاتها لسببين أولهما أن الشاي مصنف ضمن المواد الغذائية المستثناة من العقوبات، وثانيهما أن التبادل تم بعيدًا عن المصارف الإيرانية الواقعة تحت العقوبات، وبالتالي فإن الحكومة السريلانكية لن تـُتهم بأي خروقات. ومن ناحية أخرى، تأمل كولومبو أن تقدر لها طهران إبرام هذه الصفقة فتزودها بإمدادات نفطية بسعر رخيص، خصوصًا وأنها تشكو عجزًا في احتياطاتها من العملة الصعبة.
لكن هل سريلانكا هي الوحيدة التي سعى إليها الإيرانيون لعقد صفقة مقايضة، فوجدوا ترحيبًا منها؟ الإجابة بالنفي طبعًا؛ لأن «المقايضة» صارت جزءًا من استراتيجية إيرانية متنامية لتحييد العقوبات الأمريكية والأممية باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، الذين باتوا يتفاخرون بهذا الحل «العبقري»، ويرون فيه سياسة جدية لإبطال فاعلية العقوبات على بلادهم. ففي عامي 2013 و2014 مثلاً ظهرت تقارير تفيد بأن إيران وروسيا اتفقتا على مبادلة نحو 500 ألف برميل من النفط الإيراني ببضائع روسية، في صفقة وصلت قيمتها إلى 1.5 مليار دولار شهريًا. ومؤخرًا صرح مسؤول في اللجنة الإيرانية العليا للسكن، بأن إيران اشترطت على شركات أجنبية صينية وتركية، أن تأخذ نفطًا مقابل مستحقاتها المالية الناتجة عن مشاريع تنفذها في إيران.
لعل أكثر ما أثار دهشة المراقبين هو ما نشرته صحيفة كيهان الإيرانية أواخر ديسمبر الفائت من انتقادات لصفقة «الشاي مقابل النفط» ومثيلاتها على لسان عضو الغرفة التجارية «مسعود دانشمند» الذي لم يتردد في قول ما معناه: «يستوردون نفطنا مقابل بضائع صينية بائرة وشاي سريلانكي من الدرجة الثالثة لا تقبله الأسواق العالمية ونحن مضطرون لقبوله، ومبيدات زراعية صينية عالية الخطورة على محاصيلنا ما جعلها غير مقبولة في الخارج ومسببة للأمراض في الداخل»، في إشارة إلى تقارير نشرتها وسائل الإعلام الإيرانية عن رفض دول مثل روسيا والهند وأوزبكستان والإمارات وتركمانستان استقبال منتجات زراعية إيرانية بسبب استخدام المبيدات الصينية «غير القياسية» فيها.
والحقيقة أن كيهان لم تنشر تصريح دانشمند من باب إيمانها بحرية الرأي، وإنما للرد عليه واتهامه بالعداء لسياسات النظام، إذ علق محرر الصحيفة، التي يشرف عليها مكتب المرشد الأعلى، قائلاً: «هناك تيار على ما يبدو غير راضٍ بعودة أموال بلادنا بأساليب مبتكرة، فبدأ بالتشويه والتشويش».
التعليقات