تمثل الصحافة، سواء في العصر الورقي، أو في العصر الإلكتروني، أرشيفا ومخزنا مهما في حياة الشعوب والمجتمعات، لما يوجد فيها من أخبار، ومعارف، وثقافة، ومصطلحات، وكشف لأنماط العيش، والحياة في حقبة زمنية، ومن يرجع إلى النسخ القديمة من الصحافة الورقية يلاحظ كثيرا من الملاحظات، سواء في نوع الأخبار، وصياعتها، والمصطلحات، والمواضيع الأكثر حضورا، بل الإخراج، والخط، ونوع الورق، والحبر المستخدم، وكيفية عرض العناوين، والتعليقات. وفي اعتقادي أنه لو قدر لأحد الباحثين القيام بدراسة تحليلية تقوم على منهج تحليل المحتوى لأعداد من الصحف القديمة، سيجد كنوزا من المعلومات الدسمة، ذات القيمة في الكشف عن التحولات الاجتماعية في المجالات كافة.
مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ترجم كتابا من إعداد أحد البريطانيين يحمل عنوان صورة الإنسان العربي في الصحافة البريطانية، وتبين له بعد تحليل كل ما يكتب من أخبار، أو مقالات، أو كاريكاتير، أن النمط الشائع تكراره في الصحافة البريطانية للعربي ذلك الشخص القميء، الغبي، الثري الذي لا يحسن توظيف المال، لتكون الصورة العامة التي تترسخ في عقل القارئ صورة سيئة يستحق صاحبها النبذ والكراهية، وعدم التعاطف والتواد معه. طبعا هذا الوضع في الصحافة القديمة، وقد يكون الوضع تغير، فالتحيز السابق ضد العربي له أسبابه السياسية، وربما توجد أسباب موضوعية نتيجة تصرفات سيئة أوجدت هذه الصورة السيئة، أو ربما الوضع كما هو.
مما أتذكره بشأن صحفنا أنها لا تصل إلى المحافظات والبلدات خارج مدينة الرياض، لعدم اكتمال الطرق المسفلتة بين الرياض وهذه المحافظات والبلدات، وعدم انتظام خروج سيارة البريد، ولذا كانت تصل الأعداد متأخرة ثلاثة أيام، وأحيانا أسبوعا، لننكب عليها حال وصولها، فهي المصدر الرئيس للأخبار الحكومية، وما يخص مشاريع التنمية، إضافة إلى الاهتمامات الأدبية من شعر ونثر يسطره رواد الصحافة وكتابها في ذلك الوقت، ومع أن الرياضة لها حيزها في ذلك الوقت، إلا أنها لم تكن بتلك الإثارة، والاهتمام الشديد كما هو حاصل الآن، وهذا ربما يعود إلى نقص الكوادر التحليلية، والتركيز على نتائج المباريات، دون تحليل فني يستند إلى أسس علمية، إضافة إلى عدم توافر التقنيات المتقدمة التي تنقل الحدث الرياضي بالصورة، واللون، والحركة، وهذا أمر طبيعي في تلك الفترة، بما يتناسب مع مستوى الوعي الاجتماعي الرياضي.
قبل أعوام، كانت سيارات توزيع الصحف تجوب شوارع الأحياء توزع على المشتركين، لكن منافسة الصحافة الإلكترونية لها جعلها في الظل، وحل محل سيارات توزيع الصحف سيارات نقل الوجبات والطلبات من السوبرماركت، أو الطلبات عبر الإنترنت، وهذا بحد ذاته يمثل تحولا اجتماعيا يحتاج إلى التوقف عنده لمعرفة الآثار المترتبة عليه، سواء ما يتعلق بغذاء الروح والعقل، أو غذاء الجسد، وأيهما الذي له الأولوية في زمن تزداد التحديات والتحولات كما ونوعا، وبسرعة متناهية كتسارع البرق.
قبل أعوام، اعتادت إحدى الصحف على عرض صفحة من صفحاتها في الزمن الماضي، التي مضى عليها عقود، واستوقفتني بعض الأخبار والصور، حيث خبر تبرع أحد المسؤولين بعشرة آلاف ريال، وورد الخبر بالبنط العريض لضخامة المبلغ في حينه، في حين أن المسؤول نفسه يتبرع بعشرات الملايين فيما بعد، مما قد يدل على قيمة الريال في وقتها، ورخص المشاريع في ذلك الوقت. من الصور التي استوقفتني صورة مسؤول من دون عقال، ما يعكس المعنى الاجتماعي، ودلالة لبس أو عدم لبس العقال. أما الوقفة الثالثة فكانت خبر افتتاح فندق، وتقديم المرطبات والكيك في حفل الافتتاح، وصورة لذلك، مع يقيني أن بعض من قرأ الخبر في حينه ربما لا يعرف معنى مرطبات، رغم أنه يشربها.
ما تم عرضه من صور الماضي التي دونتها، وصورتها الصحافة، يحكي حياة مجتمع تدرج في التحول في مجال الثقافة، ونمط الحياة، والعيش، واللباس، وأهم من ذلك كله طريقة التفكير، ومقارنة بين حياة الماضي بالواقع المعاش، يكشف بلغة الأرقام نسبة تحول كبير يحمل في طياته الإيجابيات والسلبيات، وهذا يستدعي إجراء الدراسات والبحوث للوصول إلى معادلة تعتمد على مواصلة النمو والتطور.