تُشَبِّه الفلسفة الرّواقية حال الإنسان بوصفه خاضعاً دوماً للأقدار والحاجات الضرورية، تشبّههُ بالكلب المشدود بلجامٍ طويل إلى عربة، يتمّ سحبه قسراً ليتبعها في جميع الأحوال، إلا أنّ له مساحة حريّة يتحرّك فيها دون تحرّر حقيقي.. والمعنى، أنّ الحياة لا تمنحُ الإنسان الحريّة الكاملة في التصرّف، والمجتمع يشدّد على ارتباطه به وتقييد مصالحه وتخويفه من التفرّد والانفصال، وهو بهذا ينغّص عليه أساس كينونته الإنسانية، وهي الحرية.. يقول الروائي والفيلسوف (نيكوس كازانتزاكيس): «لستَ حُرّا..

كُلُّ ما في الأمر، أنّ الحبلَ المربوط في عنقكَ أطولُ قليلاً من حبال الآخرين». برزت أهمّية فلسفة «العقد الاجتماعي» بوصفها علاقةً تحكم أفراد المجتمع بالسُّلطة الحاكمة، وتنظّم حرّيات الأفراد في صورة حقوق وواجبات، بتنازل الأفراد عن جزءٍ من حرّياتهم، مقابل الحفاظ على الباقي منها ضمن الحريّة الجماعية في منظومة «الدولة» التي وصفها (جان جاك روسو) بأنها «شرُّ لابدّ منه»، حيث تفرض أنظمةً وقوانين توفّر الأمن، وتمنع العودة إلى شريعة الغاب، وفي الوقت نفسه، تحاول تحقيق السّعادة والعدالة للجميع. إنّ الهدف الأسمى لتطوّر التاريخ -كما في فلسفة هيجل- هو حرّية الاختيار، لكنّ المعضلة في أنّ اختياراتنا المزعومة، تشكّلها مجتمعاتنا نفسها، ومن هنا، برزت مُعضلة كبيرة لدى الفرد، وهي ذوبان شخصيّته، وضعف اعتزازه بنفسه، وسط مجموعات بشرية كبيرة تعمل بشكلٍ تلقائي، دون إرضاء شغفه بالتقدير والتميّز، فحتى ما يُقال عنه «الرأي العام»، هو في الواقع وسيلةٌ فعّالة للتحكّم في الحريّة الفردية.. لكن من الضروري الاعتراف، بأنّه مع تنامي الاستقلالية الفردية، يزداد عبءُ المسؤوليّة الشخصية، لذلك يفضّل أكثر الناس العُبودية على الحرّية!. ‏يقول (إريك فروم): «يبدو أن غالبية الناس ليسوا إلا أطفالاً، غير واعين تماماً، يمكن التأثير عليهم إلى حدّ كبير، وهم مستعدُّون للتخلّي عن إرادتهم والاستسلام لمن يكلّمهم بلهجةٍ ناعمة، أو على العكس، بلهجةٍ قاسية بهدف استمالتهم».

والحقيقة، تُعدّ الفردانية -على استحالتها- قمّة الحريّة، أن تكون مستقلّا مُنفصلاً مُستغنياً غير مبالٍ، تفعل ما ترغب وتتخلّى عمّا لا تريد، ألّا يخبرك أحدٌ عن مشكلاته، ولا تخبر أحداً عن مشاعرك، أن تنام بعمق وتصحو دون أن يوقظك أحد، أن تفكّ ارتباطك بكلّ من حولك، وتعود غريباً مطمئناً، لا يعرفك الناس ولا تعرفهم!.