تشير عوامل عدة إلى احتمال ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات تاريخية في المستوى القريب، بشكل تفقد فيه "أوبك" سيطرتها على الأسعار، ليس كما حصل في عام 2008، ولكن بشكل أسوأ وأخطر. فـ"أوبك" تقف عاجزة عن التأثير في أسواق النفط إذا دبت حالة الهلع فيها، التي سينتج عنها ارتفاع كبير في أسعار النفط.
في حالات الهلع، تفقد الأسواق المنطق، وتفقد معه كل الأسس الاقتصادية للتجارة، وينتج عن ذلك أن السياسات الحكومية وسياسات "أوبك" تصبح غير مجدية. وبالتالي فإن السحب من الاحتياطي الاستراتيجي أو زيادة الإنتاج لن يؤثرا في الأسواق. في هذا الجو المشحون، تسود سياسة القطيع، فترتفع حمى المضاربات، ويزيد التخزين، ويتم شراء النفط في حاملات مرات عدة، ما يجبرها على تغيير وجهتها مرات عدة، فتزيد كميات النفط في البحر، وتقل في البر، بسبب التحول المستمر لوجهات حاملات النفط.
في هذا الجو المشحون، لن تؤثر عودة النفط الإيراني إلى الأسواق، حتى لو افترضنا أن لدى إيران كميات إضافية تستطيع تصديرها. ولن تؤثر عودة النفط الفنزويلي حتى لو تم رفع العقوبات، وإمداد فنزويلا بكل ما تريده من السوائل الغازية التي تحتاج إليها لتمييع النفط الثقيل لنقله عبر الأنابيب والسفن.
ما فائدة السحب من الاحتياطي الاستراتيجي إذا كانت المصافي وبيوت التجارة العالمية والمضاربون سيخزنونه؟ ما فائدة زيادة إنتاج دول "أوبك" إذا كانت الكميات الإضافية ستدخل حمى المضاربات بحيث يبقى النفط في البحر لمدة أطول؟
بدأت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا توحي بأن الأمور قد تخرج عن نطاق السيطرة والمصالح المشتركة. صورة واحدة من أوكرانيا كصور فيتنام قد تغير الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة، ويجبر رؤساء هذه الدول على وقف واردات النفط والغاز من روسيا، أو التدخل العسكري في أوكرانيا.
حتى الآن لم نرَ ردة فعل روسية قوية على العقوبات الغربية، ولكن تأزم المشكلة سينتج عنه ردة فعل روسية، وهذا يتضمن وقف إمدادات الغاز والحبوب لبعض الدول، وهجمات سيبرانية على القطاعات المختلفة في الغرب.
أضف إلى ذلك أن أسعار الغاز، بلغت أضعاف أسعار النفط، ومن ثم فإن هناك حافزاً للتحول من الغاز إلى النفط. ووصل رقم ارتفاع أسعار النفط إلى قرابة 130 دولاراً للبرميل عند كتابة هذا المقال. هذا التحول سيرفع الطلب على النفط، ويرفع أسعاره.
ارتفاع الأسعار بأكثر من 40 دولاراً يعود إلى ثلاثة أمور، الأول مضاربي وهو الجزء الأصغر، والثاني نتيجة توقف البنوك الأوروبية عن إعطاء رسائل اعتماد بنكية لمشتري النفط الروسي، وتوقف شركات التأمين عن تأمين بعض حاملات النفط، الناقلة للنفط الروسي. أما الثالث فهو توقع مزيد من العقوبات والتصرفات الاختيارية للبنوك والشركات التي ستخفض صادرات النفط الروسي.
باختصار، هناك هلع في السوق، ولكن ما زلنا في البداية. ما زالت ردة الفعل الغربية ضعيفة، ولم نرَ حتى الآن رد فعل روسي، ولم نرَ آثار التحول من الغاز إلى النفط بشكل كبير حتى الآن.
مشكلة قد تتحول إلى كارثة
إلا أن ما ذكر أعلاه هو جزء من القصة... ما قد يفاقم الهلع ويرفع أسعار النفط إلى مستويات قياسية، هو اقتناع بعض قادة "أوبك" أن هذا آخر ارتفاع لأسعار النفط في التاريخ... ومن ثم يريدون اقتناص هذه الفرصة... صحيح أن زيادة الإنتاج في حالة الهلع لا تجدي، ولكنها مهمة لتقصير فترة الهلع، ومهمة لفترة ما بعد "الهلع". ولكن إذا اختاروا الاستمرار بتقنين كميات النفط، فإن حالة الهلع ستطول، وسترتفع أسعار النفط إلى مستويات قياسية.
هذه المشكلة قد تتحول إلى كارثة بسبب ردة فعل الدول المستهلكة سياسياً واقتصادياً، التي قد ينتج عنها ركود اقتصادي، وربما كساد... عندها سينهار الطلب على النفط، وستنهار الأسعار. هذه الذبذبة الضخمة في أسعار النفط، أكثر خطورة على الاقتصاد العالمي واقتصادات دول "أوبك" من أسعار النفط المرتفعة.
ولنتذكر ما ذكر في مقالات ومقابلات سابقة: العالم يعاني حالياً ارتفاعاً كبيراً في أسعار الوقود والمواد الغذائية، ولهذا الارتفاع نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية. ولنتذكر أيضاً أن كل المشاكل السياسية والحروب التي عانتها الدول النفطية حصلت في فترات الأسعار المرتفعة، لهذا فنحن أمام مزيج خطر.
وقد تتحول الأزمة الحالية إلى كارثة إذا عرفنا أن سياسات الحياد الكربوني لن تنجح كما هو متوقع، حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أن هذا الغزو سيؤخر تطبيق هذه السياسات لسنوات عدة بسبب تحول الإعانات إلى دعم أسعار الوقود والغذاء، ومن ثم فإن العالم سيكون بحاجة إلى مزيد من النفط، ولكن هذا النفط غير موجود بسبب اقتناع بعض قادة "أوبك" بأن نهاية الطلب على النفط باتت قريبة، فلا يستثمرون بعض الفوائض المالية في قطاع النفط، بل ينفقونها في قطاعات أخرى. وستكون الخسارة أكبر إذا قلصت بعض الدول إنتاجها مع الزمن بسبب تحويل الاستثمارات من قطاع النفط إلى قطاعات أخرى، بينما تستمر شركات النفط العالمية بالاستثمار، وتسحب البساط من تحت "أوبك".
هل نجحت التوقعات؟
توقع البعض ارتفاع أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل، وتوقع بعضهم وصولها إلى 125 دولاراً للبرميل. تقيم التوقعات بأمرين، مدى تحقق السعر المتوقع، وتحقق مسببات الوصول إلى هذا السعر. مجرد الوصول إلى السعر المتوقع لا يعني صحة التوقع إذا كان السبب مغايراً للأسباب المذكورة في التوقع.
نعم، تجاوزت أسعار النفط 100 دولار للبرميل، وتجاوزت 125 دولاراً للبرميل، ولكن لأسباب تختلف عن أي توقع. ومن ثم فإن هذه التوقعات كانت خاطئة، على الرغم من أن من استثمر وفقاً لها، حقق أرباحاً طائلة. وتنطبق الفكرة نفسها على التحليل الفني... التحليل الفني لا يتوقع غزو بلد لبلد، ولا يتوقع أن يكون البلد الغازي من أكبر منتجي النفط في العالم.
الوصول إلى الهدف شيء، وطريقة الوصول إليه شيء آخر. إذا اختلفت طريقة الوصول إلى الهدف عما كان متوقعاً، فذلك يعني فشل التوقعات، على الرغم من أن الهدف تحقق. من يدعي غير ذلك فإما لديه معلومات استخباراتية عن الغزو الروسي لأوكرانيا وما ستقوم به الدول الغربية، وإما مقامر كبير، مهووس بفكرة.
التعليقات