يوم الخميس الماضي اتصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، من خلال تطبيق فيديو خاص، ودامت المكالمة ساعة ونصف الساعة عبّر فيها الرئيس الروسي عن عتبه الشديد على الموقف الفرنسي والأوروبي عموماً تجاه بلاده، وكان قاسياً في كلامه وهدّد بالويل للشعوب الأوروبية إذا حاول حلف الناتو فرض أي حظر جوي أو ميداني لخلق مناطق آمنة. وبقي ماكرون مصغياً معظم الوقت في محاولة لتنفيس غضب بوتين واستيعابه، إلا أنه فشل واستمر القيصر الروسي بتهجمه إلى أن قاطعه الرئيس الفرنسي بحدة قائلاً إنه يخاطر بالكثير من مصالح بلاده ومستقبله الشخصي للتكلم معه، وإنه لم يفعل هذا لكي يستمع إلى الكلام القاسي وغير اللائق، بل هو يتدخل لإيجاد مخرج للأزمة التي لن ينجو أحد من كارثيتها. ورد بوتين بأن الأطفال في روسيا يعلمون مطالبه ولا حاجة لتكرارها، وهو يمارس أقصى درجات ضبط النفس ولو لم يفعل لكان دمّر العاصمة كييف عن بكرة أبيها من اليوم الأول وقتل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي يعلم أماكن وجوده والغرف التي ينام فيها، إلا أنه لا يريد هذا. وقد انتهت المكالمة من دون أي نتيجة ما عدا الاتفاق على إبقاء خط الاتصال مفتوحاً. ويقول مقربون من الرئيس ماكرون إن الإحباط بدا واضحاً على وجهه وانكفأ إلى جناح إقامته في الإليزيه طالباً إلغاء مواعيده المتبقية لذلك اليوم.
المكالمة مع ماكرون، كتصريحات بوتين وأفعاله، تدل على شيء واحد، وهو أن بوتين تخطى نقطه اللاعودة ويخوض حرباً وجودية يرى أن له فيها حق استعمال كل الوسائل العسكرية المتاحة، ولا يثنيه أي قانون دولي أو عرف أو تفاهم.
ويعرف الرئيس بوتين جيداً أنه لن يعود إلى المجتمع الدولي كالابن الضال، فخياره سيكون تغيير النظام الدولي القائم منذ عام 1945 ليكون قطباً ثالثاً مع الولايات المتحدة والصين أو الانضمام إلى قائمة الرؤساء السابقين الذين فشلوا في تحقيق مخططاتهم وانتهوا منبوذين مذلولين أو مقتولين. فما مخطط الرئيس بوتين؟
أولاً هو يريد أن تبقى أوكرانيا خارج حلف الناتو، بل في مرحلة أولى دولة منزوعة السلاح تحكمها موسكو بواسطة أذرع تأتمر من الكرملين. ويريد أيضاً أن يجعل من أوكرانيا مثالاً لكل جمهورية شكّلت في الماضي الاتحاد السوفياتي، يمكن أن تتمرد مستقبلاً أو تخرج عن السيطرة الروسية فيكون الدمار والتشريد والقتل مصيرها.
ثانياً هو يخطط لعودة بعض من الاتحاد السوفياتي إلى سابق عهده ومن دون أعباء الالتزام المالي الروسي بمكونات الاتحاد بل ربما العكس.
وقد أقام تحالفاً عسكرياً تحت قيادته ضمّه مع ست دول سوفياتية سابقة وهي بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وقد يضم أوكرانيا في مرحلة ثانية. فبوتين يدرك أن نفوذه في العالم الذي تقهقر منذ الانهيار الكبير لا يزال مستمداً من قوته العسكرية النووية إلا أنه يعلم أيضاً أن هناك ما هو أهم وأفعل. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانفتاح روسيا الكامل على الغرب أصبحت روسيا مصدر الطاقة الأكبر للدول الصناعية الأوروبية العملاقة مثل ألمانيا التي تعتمد بنسبه 80% على الغاز الروسي وكذلك النفط الذي يغطي نحو 65% من استهلاك أوروبا و7% من الاستهلاك العالمي. وهناك تصدير القمح إلى أوروبا والعالم بنسبة 17% من الاستهلاك العالمي، مما جعل روسيا الدولة الأولى في التصدير، والانفتاح الروسي نتجت عنه استثمارات مالية روسية في أهم اقتصاديات أوروبا، قُدِّرت بما يفوق 6.3 تريليون دولار تمت بواسطة مقربين من الرئيس الروسي ممن يطلق عليهم هذه الأيام تسمية الأوليغارش الروس. فإذا قام الاتحاد السوفياتي على تصدير الآيديولوجيا، فإن روسيا بوتين تقوم على تصدير الطاقة والخبز، والمال عصب الاقتصاد ومحرك البورصات، ومن هنا ندرك أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى بوتين حيث معظم الغاز الروسي يمر بأراضيها ليغذّي أوروبا.
من هنا يعتقد بوتين أن روسيا هي القطب الثالث شاء مَن شاء وأبى من أبى، وهو وإن عادى العالم كله وأصبح العدو رقم واحد، فإن مصالح الدول هي التي تتكلم وليست مشاعرها، وما زحف الرئيس ماكرون إلا دليل ساطع على هذا.
مَن يتابع الأحداث في دول العالم الأول يدرك مدى الارتباك لدى القيادات السياسية فيه. فهي لا تريد المواجهة العسكرية المباشرة مع الروس في أوكرانيا ولا تملك خيارات جدية لردع بوتين. فالعقوبات الاقتصادية التي صدرت خجولة وغير مؤثرة كما هي الدعوة إلى مقاطعة مصادر الطاقة الروسية التي لا تتعدى الشعارات الشعبوية. فاستبدال مصادر أخرى بالغاز والنفط الروسي يحتاج إلى وقت. وهذا ترف لا يملكه الغرب في الوقت الراهن. وقد صرح الرئيس بوتين بأن أي إجراء لوقف استيراد الغاز سيؤدي حكماً إلى قطع تصدير البترول وقد يؤدي إلى ما هو أوسع من الصادرات الروسية الأساسية، وكان يعني القمح. لم يقرأ الغرب جيداً ما أقدم عليه بوتين في جورجيا وشبه جزيرة القرم وكازاخستان، ولم يحسبوا أن ما مدهم به من طاقة ومال وقمح هو سلاح يستعمله ضدهم في مخططات توسعه.
في الوقت الذي بدأ العالم فيه بالخروج من جائحة «كورونا» ومعالجة ذيولها على الاقتصاد العالمي، جاءت الحرب الأوكرانية التي لا بد من أن تشكل منعطفاً تاريخياً مهماً. فتوقعات مراكز الأبحاث أن ترتفع معدلات التضخم بوتيرة سريعة من جراء الأزمة الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة، ليصل التضخم إلى 8% في الربع الثالث من هذا العام وأكثر من 10% في نهاية العام. وتتوقع هذه المصادر أن يؤدي هذا إلى انحسار اقتصادي عالمي وازدياد كبير في البطالة وفقدان الأمن الاجتماعي في بلدان عدة وتأثر الاتجاهات السياسية فيها لتصبح أكثر تطرفاً.
يقول باحث أميركي مقرب من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن أمام العالم الغربي الديمقراطي خصوصاً الأوروبي خيارين؛ الأول هو الاعتراف بالهزيمة أمام تخطيط بوتين التوسعي، والسذاجة في التعاطي السياسي معه، وعندها يجب أن يعض على الجراح ويتم التعامل مع روسيا كقوة عالمية كبرى على قدم المساواة مع الصين والولايات المتحدة. وهناك خيار الدخول في حرب باردة تستنفد روسيا بإدخالها في صراع طويل في أوكرانيا وغيرها، وهو ما لمح إليه نائب رئيس الوزراء وزير العدل البريطاني دومينيك راب، في مقابلة مع «بي بي سي» يوم الأحد الماضي عندما قال: إن حرب أوكرانيا يمكن أن تمتد لعشر سنوات وستكون مكلفة للجميع.
للصين هنا دور أساسي، إذ إن كل الأنظار متجهة نحوها:
في الأسابيع الأخيرة، كان هناك الكثير من التكهنات حول عمق التوافق الاستراتيجي بين الصين وروسيا. إن الحجة القائلة بأن موسكو وبكين ليستا متحالفتين فحسب، بل في تحالف علني ضد الولايات المتحدة والغرب على نطاق أوسع قد اكتسبت زخماً. إن العلاقات الصينية - الروسية قد تعمقت في السنوات الأخيرة. هناك صفقة بقيمة 117 مليار دولار تم توقيعها خلال زيارة بوتين لبكين مع تزويد روسيا للصين بالنفط والغاز من الشرق الأقصى الروسي. ولقد زادتا أيضاً من التعاون العسكري بالإضافة إلى تحالفهما السياسي ضد العقوبات، ومع ذلك، يبدو أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا واجه بكين بخيار غير مريح. إنه يمثل تحدياً كبيراً للصين في تحقيق التوازن بين رغبة بكين في «شراكة استراتيجية مع روسيا»، و«التزامها بمبادئ السياسة الخارجية الطويلة الأمد المتمثلة في وحدة الأراضي وعدم التدخل والرغبة في تقليل الأضرار الجانبية الناجمة عن عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة».
كما ذكرت تقارير أن الاستخبارات الأميركية أبلغت الصين بشأن الاستعدادات العسكرية الروسية - التي قدمتها لها واشنطن كوسيلة لإقناع بكين بالتهديد الحقيقي للعمل العسكري الروسي. في غضون ذلك، تعتقد أجهزة الاستخبارات الغربية أن شكلاً من أشكال التشاور بين بكين وموسكو بشأن خطط روسيا قد حدث قبل الغزو، على الرغم من أن المعلومات الاستخباراتية لا تشير بالضرورة إلى أن المحادثات حول الاجتياح حدثت على مستوى الرئيسين الروسي والصيني.
بعد الاجتياح، خففت بكين أيضاً القيود التجارية المفروضة على واردات القمح وفول الصويا الروسي، والتي يمكن أن توفّر لموسكو، جنباً إلى جنب مع زيادة مشتريات الصين من النفط والغاز الروسيين، مستوى معيناً من التحرك ضد العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية. وبينما كررت التصريحات الرسمية لبكين بشأن الاجتياح الروسي موقفها الراسخ منذ فترة طويلة بشأن حرمة سيادة الدولة والحاجة إلى تسوية تفاوضية، فقد روّجت في الوقت نفسه لموقف موسكو بأن توسع الناتو شرقاً هو سبب الحرب. في الوقت نفسه هناك بعض الدلائل على أن بكين غير مرتاحة لاحتمالات أن تصبح هي ضرراً جانبياً لمغامرة بوتين. هي لم تقْدم على خطوات لمساعدة روسيا في التهرب من العقوبات الأميركية والأوروبية الأخيرة التي تستهدف البنك المركزي الروسي وفصله عن «سويفت» شبكة المعاملات العالمية. هذا أمر مهم، إذ وفقاً للتقرير السنوي للبنك المركزي الروسي لعام 2020، فإن 14% من احتياطياته من العملات الأجنبية محتفَظ بها في الصين. ويمكن لروسيا أيضاً أن تسعى إلى التهرب من العقوبات باستخدام العملة الصينية «الرنمينبي» بدلاً من الدولار الأميركي في المعاملات مع الصين.
وتفيد تقارير بأن بنكين حكوميين صينيين قد قيّدا في الواقع تمويل مشتريات السلع الروسية.
كما ظهر مصير نحو 6000 مواطن صيني في أوكرانيا كنقطة ساخنة محتملة قد تؤثر على العلاقات الثنائية.
يبدو أن حسابات بكين هي أنه ما دامت لا تقدم مساعدة عسكرية لروسيا، فإنها ستعاني على الأكثر من عقوبات ثانوية بسبب دعمها السياسي والاقتصادي، بينما تستفيد من حقيقة أن الولايات المتحدة وأوروبا ستحدقان بعيداً عن آسيا، مما يمنح الصين يداً أكثر حرية في جوارها. تنوي الصين أن تدعم روسيا عاطفياً ومعنوياً بينما تمتنع عن الدوس على أخمص أقدام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حتى تتمكن في المستقبل من الاعتماد على تفهم روسيا ودعمها عند المصارعة مع أميركا لحل قضية تايوان مرة واحدة وإلى الأبد.
بالنظر إلى هذه الخلفية، يبدو أن بكين في وضع مضطرة فيه إلى الاختيار بين خيارين سيئين؛ أن تدعم «الرجل الأكثر سمّاً في العالم»، بشكل علني للغاية، وهذا لا يخاطر فقط بعزلها عن أوروبا وتعميق الانقسامات مع واشنطن، بل قد يجعل الصين عُرضة للعقوبات السياسية والاقتصادية. لكن إبعاد نفسها عن موسكو، كخيار ثانٍ من المرجح أن يوجه ضربة للعلاقة التي يمكن القول إن بكين تحتاج إليها في فترة العلاقات المتوترة مع كل قوة عظمى أخرى تقريباً.
- آخر تحديث :
التعليقات