من النادر أن نلحظ في عالمنا المتشابك اليوم قبولا أو رضا عن التغطية الإعلامية لحدث بارز، وإن كان هناك هدف للنقد القاسي في العالم اليوم، لربما هو الإعلام.
وهنا لا أستثني منطقة دون أخرى، أو حدثا دون آخر أو التغطية الإخبارية لواقعة دون أخرى.
ومن أشد المنتقدين لأداء الإعلام في عالمنا المعاصر هم الأكاديميون المختصون بدراسة الصحافة والإعلام.
قبل عدة أعوام، أمضيت عدة أسابيع في هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي"، لإجراء اللقاءات وجمع معلومات لكتاب ألفته حول التغطية الإخبارية للشرق الأوسط من قبل أكثر القنوات الغربية تأثيرا.
ومن ضمن الأسئلة، التي كنت أطرحها للذين أقابلهم، بينهم كبار المحررين، كان سؤالا يتمحور حول مدى استفادتهم من الكم الهائل من الأبحاث الأكاديمية في حقل علوم الصحافة والإعلام.
لقد كان الجواب صادما، لم ألتق صحافيا أو محررا وأجاب بالإيجاب إن كان قد قرأ بحثا أكاديميا يتيما حول مهنته.
وعندما سألتهم لماذا يعزفون عن قراءة الأبحاث الأكاديمية، التي تتناول مهنتهم بالدرس والتمحيص، كان الجواب أن الأكاديميين يكتبون برطانة يصعب عليهم سبر أغوارها، ومن ثم، وهذا بيت القصيد هنا، أن الباحثين والعلماء الذين يمضون ربما العمر في دراسة الإعلام غايتهم النقد فحسب.
إلى حد ما هذا صحيح، ولكن غاب عن بال كل الذين التقيتهم أن الأبحاث الأكاديمية رصينة ومبنية على أسس علمية سليمة وتستند إلى بيانات جرى جمعها بعد بذل جهد كبير.
وأتذكر أن محررا كبيرا قال لي: "أنتم - الباحثين - تكتبون بحثا من نحو عشرة آلاف كلمة حول خبر قد لا يتجاوز حجمه 500 كلمة. من سيقرأ هذا؟".
مهما يكن من أمر، فإن مهنة الصحافة في الأساس تستند إلى النقل، أي إسناد المعلومات عن الحدث إلى مصادر ومن ثم وضعها في سياقها وإيرادها بنزاهة وموضوعية وتوازن.
ولأن الأمم حتى الأفراد والمؤسسات تغلبها الخصومة، التي قد تصل إلى الصراع الدموي والحروب، لا أظن أننا سنصل إلى الوضع الذي يكون في إمكاننا تحقيق النزاهة، التي ننشدها في نقل الأخبار.
ونضع نحن - الأكاديميين - أسسا لتحقيق النزاهة في تغطية حدث ما أو نقل معلومة ما. وهذه الأسس معروفة وتدرس على نطاق واسع في معاهد وكليات الإعلام والصحافة.
وقد لا يعرف كثيرون أن مسألة النزاهة في النقل عن الآخر، وتغطية حدث ما أو أسلوب حياة الناس، وما هم عليه في مكان ما كانت مثار نقاش وجدل في التراث العربي والإسلامي.
وهنا أنا لا أخص الحديث الشريف، الذي له أسس متينة لفرز الغث عن السمين، بل أركز على ما توصل إليه العرب من مبادئ لتحقيق النزاهة عند نقل الحكاية عن الآخر بصورة عامة.
وقد عرجت على هذه المبادئ في قراءتي أخيرا لأبي الريحان البيروني وهو رحالة شهير عاش في القرن الـ 11، وأدب الرحلات، في رأيي المتواضع، يعد إنجازا حضاريا كبيرا للعرب.
قبل أكثر من ألف عام، قدم لنا البيروني المبادئ والأسس، التي تؤشر على أن الحاكي "المصدر" قد لا يكون صادقا، وأنا أقرأ هذه المبادئ، وكأنني أمام بحث أكاديمي عن المؤشرات التي علينا اتباعها عن فرز المعلومة الكاذبة عن المعلومة النزيهة.
في نيتي كتابة مقال منفصل عما توصل إليه البيروني من أسس ومبادئ للحكم على نزاهة المصدر من عدمه. أكتفي هنا بذكر بعضها ومنها تمحيص المصدر الذي ننقل عنه أو حتى نقرأه لأن الناس بطبعها تبجل وتعظم ما هي عليه من ميل وثقافة ودين وموقف.
ويعرج البيروني إلى دور السلطة power التي تأخذ حيزا كبيرا في الدراسات الأكاديمية في حقلي الصحافة والإعلام، حيث يقول إنه ليس هناك غرابة أن يداهن الحاكي "المصدر" أو حتى الناقل "الصحافي أو الإعلامي" من في يده القوة والمال وله الهيمنة.
المهم، وفق البيروني، أن يكون الذي ينقل الحدث عن المصادر حذرا كي يفرز الصدق من عدمه.
رحم الله أبو الريحان البيروني، الذي أمتعني بكتاباته أكثر من متعتي بأي مادة قرأتها في حقل اختصاصي.