عندما تسلّم نائب رئيس الحكومة الليبية الجديدة علي القطراني المقارّ الحكومية في المنطقة الشرقية بما في ذلك ديوان رئاسة الوزراء ببنغازي، فذلك يعني أن الأزمة الحكومية دخلت مرحلة كسر العظام، وأن أيّ محاولات لتجاهل هذا الواقع ستدفع مباشرة إلى المزيد من الأزمات، وكأننا نعود إلى ما حدث بعد انتخابات يونيو 2014 من صراع محتدم اتضحت معالمه بإعلان تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثني، والتي انبثقت عن مجلس النواب ونالت ثقته في سبتمبر من ذلك العام، واستمرت في إدارة الشأن العام بمناطق نفوذ الجيش الوطني في برقة وفزان وبعض مناطق إقليم طرابلس حتى مارس 2021، عندما جاءت حكومة ملتقى الحوار السياسي على أنها حكومة الوحدة الوطنية، وتم تمهيد الطريق أمامها لتحقق أهدافها المعلنة على الأقل، لكن رئيسها المهندس عبدالحميد الدبيبة حاد عن السبيل والهدف والمشروع، وأصبح لا هدف له إلا الاستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية، ولتحقيق ذلك تحالف مع الميليشيات وأمراء الحرب وأعلن الحرب على القوى السياسية والعسكرية في شرق البلاد، واتجه لاستغلال المال العام في خدمة أهدافه، واعتمد على دبلوماسية الصفقات والوعود والمواقف المتناقضة، بهدف إرضاء الجميع إقليميا ودوليا مع الميل إلى حيث تميل القوى الرئيسية حتى تستمر في تبنيه.

بدأت نذر العودة إلى سنوات الانقسام الليبي، في الظهور للعلن، والسبب ليس فقط تعنت الدبيبة وتمسكه غير المشروع بالحكم كغنيمة يرفض التفريط فيها، ولكن كذلك موقف بعض العواصم الغربية التي لا تريد للأزمة أن تنتهي، ولا للدولة أن تستعيد سيادتها من خلال سلطة قوية قادرة على تجاوز مرحلة الفوضى والتشتت، وإنما وكما هو واضح، تسعى لدعم الفاسدين وتمكينهم من السيطرة على مفاصل الدولة، والتعامل معهم على أنهم الفريق الضامن لمصالحها. والمتابعون للشأن الليبي يعلمون جيدا كيف تدار الصفقات من تحت الطاولة، وكيف يتم العبث بقوت الليبيين من قبل قوى خارجية تدّعي النزاهة والشفافية والدفاع عن الحرية والديمقراطية وسيادة الدول وتمارس عكس ذلك تماما.

كان هناك أمل في تجاوز مخلفات الماضي وطيّ صفحة الصراعات، لكن الصراع على ثروة الليبيين من قبل الفاعلين في الداخل والخارج حالت دون ذلك، علينا أن ندرك أن هناك من لا يرى في ليبيا إلا مصالحه الشخصية أو مصالح المحيطين به والمقربين منه، ولا يحسب حسابا إلا للمداخيل اليومية من صادرات النفط والغاز، وأن العديد من القوى الخارجية ترى في ثروة ليبيا مصدرا سهلا للنهب والابتزاز، بالتنسيق المباشر مع أطراف داخلية غير مهيأة لأن تقْنَع أو تشبع، ولا مستعدة للتخلي عن أساليب الشفط اليومي للمال العام، ولاسيما أن لديها ضمانات بألاّ تتعرض بعد خروجها أو إخراجها من الحكم للملاحقة الأمنية والقضائية.

الوضع الحالي في ليبيا ينذر بعودة حالة الانقسام السياسي والاجتماعي للبلاد، رغم أن تلك الحالة لم تنته في يوم من الأيام إلا على أوراق المسؤولين الأجانب وألسنتهم، وبخاصة الأميركان والإنجليز وجماعة البعثة الأممية، ومن بأيديهم المفاتيح الحقيقية لمؤسسة النفط ومصرف ليبيا المركزي، وأقصد هنا العرّابين الذين طالما تعمدوا نشر الأوهام والتعلق بها، وهم يعرفون أنها لا تمر على الشعب الليبي، فخلال الأسبوع الثاني من ديسمبر الماضي كان هناك من لا يزال يتحدث عن تنظيم انتخابات في الرابع والعشرين من الشهر، واليوم يعودون إلى ذات تلك الأسطوانة المشروخة، بمعنى الإصرار على تنظيم الاستحقاق دون أن تتوفر له الشروط الأساسية وعلى رأسها توحيد مؤسسات الدولة فعليا، وتحقيق المصالحة الوطنية، وتوفير الضمانات الأمنية لكي لا يتكرر سيناريو الضغوط والمساومات ضد مفوضية الانتخابات.

حتى ملف إجلاء المرتزقة والقوات الأجنبية عن الأراضي الليبية انتهى إلى أن يكون وهما، فأصحاب المصالح لا يريدون لهذا الملف أن يطوى، وإنما سيبقى بالنسبة إليهم أداة لإطالة الأزمة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الميليشيات وسلاحها المنتشر في غرب البلاد، والتي يراد لها أن تتحول إلى واقع غير قابل للتشكيك في شرعيته. قد يبدو غريبا أن الحكومة الوطنية تشرف على تخريج أفواج من العسكريين الذين لم يتخرجوا لا من أكاديميات عسكرية ولا من دورات تدريبية، وإنما فقط يتمّ انتدابهم للحصول على أرقام مهنية، وبعضهم يتاجر في دول أخرى ويحصل على رتب عسكرية في بلاده.

◙ المتابعون للشأن الليبي يعلمون جيدا كيف تدار الصفقات من تحت الطاولة، وكيف يتم العبث بقوت الليبيين من قبل قوى خارجية تدّعي النزاهة والشفافية

اليوم، ترتفع أسعار برميل النفط وتزداد مداخيل ليبيا، ولكن الشعب لن يستفيد من ذلك وإنّما سيعاني أكثر من التضخم وارتفاع الأسعار ومن ظاهرة الاحتكار التي باتت تستهدف حتى رغيف الخبز، وتسعى حكومة الدبيبة بالمقابل للتصرف في المال العام دون عودة إلى البرلمان باعتباره قد سحب الثقة منها، وحوّل شرعية الحكم إلى حكومة جديدة.

ربما لذلك، وجّه رئيس مجلس النواب عقلية صالح خطابا إلى مصطفى صنع الله رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، ومقرها العاصمة طرابلس، طالبه فيه بالاحتفاظ بإيرادات بيع النفط في الحسابات السيادية للمؤسسة لدى مصرف ليبيا الخارجي، وعدم إحالتها إلى حساب الإيرادات العامة مؤقتا إلى حين اعتماد قانون الميزانية العامة وصدور قرار بالصرف من قبل البرلمان.

المؤكد أن صنع الله لن يستجيب، لأنه يرد من نفس المنهل الذي يغرف منه الدبيبة، والواضح أن الأزمة في طريقها إلى المزيد من التفاقم، فالحكومة الجديدة ستمارس شرعيتها وصلاحياتها في مناطق نفوذ الجيش في شرق البلاد وجنوبها ووسطها، وهي المناطق التي تحتوي على أهم الحقول والموانئ النفطية، ولديها هناك حاضنة شعبية وقوة ميدانية، ويبدو رئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا قادرا على حسم موقفه في اتجاه ممارسة السلطة في المناطق المتاحة مع وجود مؤشرات على أن ما لا يقل عن 60 في المئة من أبناء المنطقة الغربية يدعمونه، بينما سيضطر عرابو الدبيبة إلى الاعتراف بالأمر الواقع إذا قرروا التخلي عن تبني الوهم ودعمه، والاتجاه بالفعل للعمل من أجل مصلحة ليبيا ومستقبل أجيالها وتنظيم انتخابات في أقرب موعد ممكن في ظروف ملائمة وفي سياق وطني شامل وغير منقسم أو مشتت أو محمول على الفوضى.