لروسيا علاقة خاصة بإقليم دونباس وبسكانه شرقي أوكرانيا، يفسرها امتداد القومية الروسية وثقافتها ولسانها إلى هذه المناطق، كما إلى شبه جزيرة القرم. هذا ما فسر مسارعة روسيا إلى التدخل سياسياً، في المعارك التي نشبت في الشرق الأوكراني قبل أعوام، لترتيب اتفاق بمشاركة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بين مقاتلي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين والقوات النظامية الأوكرانية، وهو ما وقع توقيعه في مينسك في بيلاروسيا باسم «بروتوكول مينسك» (1) الذي سقط بعد أشهر من توقيعه ليعقبه توقيع بروتوكول ثانٍ حمل اسم «مينسك (2)».

هذا عينه ما يفسر لماذا وضعت روسيا، ضمن أهداف حملتها العسكرية على أوكرانيا، هدف حماية الجمهوريتين وإجبار السلطة في كييف على الاعتراف بشرعية استقلالهما. وقد سلكت موسكو في علاقتها بحلفائها شرقي أوكرانيا، في البداية، مسلكاً متدرجاً بدأ بالإصغاء إلى مظلوميتهم التي زادت استفحالاً بعد انقلاب فبراير 2014 على الرئيس فيكتور يانوكوفيتش (ذي الأصل الدونيتسكي) والتدخل في صفقة مينسك لإنصاف مطالبهم. وحتى حينما أعلنوا في استفتاء عام في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك انفصالهم عن أوكرانيا، واستقلالهم في جمهوريتين لم تعترف روسيا باستقلالهما فوراً، وإن هي دعمتهما اقتصادياً وعسكرياً.

سيبدأ المنعطف في المسألة مع انهيار الحوار الروسي الأمريكي حول ورقة الضمانات الأمنية التي طالبت بها موسكو. ولقد كان التجاوب الأمريكي مع المطالب الأمنية الروسية لو حصل يكفي موسكو كي تتناول أزمة شرقي أوكرانيا مع كييف في نطاق أحكام «بروتوكول مينسك»، فتعيد التفاوض معها على أساس احترام أوكرانيا التزاماتها تجاه منطقة دونباس وحقوق سكانها، وفي قلبها التزامها بإجراء الإصلاحات الدستورية التي تكفل تطبيقاً صحيحاً وسليماً لمبدأ الحكم الذاتي المنصوص عليه. غير أن الرد الأمريكي السلبي على مطلب الضمانات الأمنية أقنع موسكو بأن الهدف ليس فقط، معاقبة روسيا، على نحو غير مباشر، عن طريق معاقبة حلفائها الروس شرقي أوكرانيا؛ بل معاقبة روسيا برمتها وفي عقر دارها بنقل التهديد الأطلسي إلى جوارها المباشر على حدودها الغربية.

هكذا وجدت روسيا نفسها تقدم تأويلاً، من جانب واحد ل«بروتوكول مينسك» يماهي بين معنى الحكم الذاتي ومعنى الاستقلال الكامل؛ بل تتخطى التزاماتها في البروتوكول على أساس خرق أوكرانيا أحكامَه، لتعترف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عشية الحرب ولتضع الدفاع عنهما في صلب أهداف عمليتها العسكرية داخل الشرق الأوكراني.

يمكن بسهولة، دفع الاعتراف الروسي بالجمهوريتين بالقول إنه أحادي، ويجافي أحكام القانون الدولي؛ لأنه ما من أحد في العالم اعترف بهما؛ بل يمكن القول إن في قيامهما انتهاك لسيادة أوكرانيا على أراضيها كافة، لكن هذا الدفع القانوني لا يلحظ اتصال الاعتراف ذاك بقضية أكبر هي مناوأة الأمن الروسي من قبل دول منظومة الأطلسي، وتورط أوكرانيا في التمكين للغرب بالضغط على الأمن القومي الروسي عن طريق إبداء الرغبة في وضع أراضيها تحت مظلة «حلف شمال الأطلسي».

وهكذا إذا كان لأوكرانيا أن تطالب روسيا باحترام سيادتها، فلروسيا الحق في أن تطالبها بعدم الانخراط في مشروع أكبر منها يروم المساس بأمنها القومي.

نحن لا ننكر أن للاعتراف الروسي بالجمهوريتين علاقة أخرى بالصلات القومية والثقافية واللغوية التي تربط سكان دونباس بروسيا، وبالتجاوزات التي ارتكبتها السلطة الأوكرانية منذ ثمانية أعوام، والجرائم التي اقترفتها الجماعات النازية المعادية للقومية الروسية بحق روس أوكرانيا (وهو ما تجرب روسيا أن تضع له حداً عن طريق إجبار حكومة كييف على الاعتراف بالجمهوريتين)، غير أن جوهر هذا الاعتراف الروسي أمني؛ أي يتصل بالمسألة الأم في النازلة الأوكرانية: أمن روسيا القومي الذي استفزه تورط كييف في مشروع معادٍ لكيان روسيا الاتحادية.

ولأن المسألة عند روسيا بهذه الأبعاد، فهي لا تتوقف كثيراً عند قانونية أو عدم قانونية اعترافها بالجمهوريتين، ما دامت قادرة على الدفاع عن وجودهما في وجه كييف وحلفائها. وهي تعرف أن من لديه طلبة لا يتوقف عند مسألة قانونيتها عند آخرين. لقد ظلت الصين الشعبية طويلاً، وما تزال، لا تعترف بشرعية تايوان على الرغم من اعتراف العالم بها، ولم يمنعها اعتراف الأخير بها من أن تظل متمسكة بحقها في استعادة سيادتها عليها.