الذين عاصروا مجريات حرب الخليج الثانية، أو ما عرف بحرب تحرير الكويت، وحدهم يدركون حجم المعاناة لجهة متابعة هذا الحدث المأساوي في تاريخ العرب الحديث. في تلك الظروف القاتمة لم تكن هناك وسيلة إعلامية لالتقاط الأخبار أولا بأول بالصوت والصورة معا سوى شبكة CNN الاخبارية الأمريكية التي قامت بمغامرة التغطية الحية والشاملة لعملية عاصفة الصحراء بدءًا من 16 يناير 1991. ومن هنا فإن تأسيس مركز تلفزيون الشرق الأوسط، المعروف اختصارا بـMBC، في الثامن عشر من سبتمبر 1991 أول قناة عربية فضائية مستقلة تبث من لندن عبر الأقمار الصناعية يُعد فتحا مبينا في تاريخ الإعلام العربي؛ لأنه فتح الآفاق أمام ملايين المشاهدين العرب من البحر إلى البحر لمتابعة الأحداث الاقليمية والعالمية بلغتهم، ووفر لهم أيضا مشاهدة برامج ترفيهية وثقافية على مدار الساعة.

وقف وراء فكرة هذا المشروع الجبار شاب سعودي طموح في مقتبل العمر كان قد درس الإعلام الحديث في الولايات المتحدة ونال منها شهادته العليا في ثمانينات القرن العشرين، وآمن مبكرا بدور الإعلام في حياة الأمم والشعوب وضرورة تلبية طموحات المشاهد العربي وحاجاته في إطار من الشفافية والجدية والابتكار وجودة المحتوى، فكان إقدامه على إطلاق MBC التي سرعان ما راحت تكبر وتتطور وتفرخ قنوات متعددة. فمثلا في عام 1994 أطلقت محطة FM إذاعية لتقديم الموسيقى الخليجية والعربية وبرامج المسابقات والألغاز ومناقشة القضايا المحلية السعودية. وفي عام 2002 أطلقت شركة O3 المتخصصة في انتاج وشراء البرامج الوثائقية العالمية. وبعد انتقالها من لندن إلى دبي في عام 2002 قامت في عام 2003 بإطلاق قناة MBC 2 المتخصصة في بث الأفلام السينمائية الأجنبية، وفي العام نفسه، وتزامنا مع الغزو الأمريكي للعراق، أطلقت قناة «العربية» الفضائية كمحطة إخبارية رائدة لمتابعة مجريات الأحداث الكبرى وتحليلها، علاوة على بث البرامج الوثائقية. وفي عام 2010 أطلقت قناة MBC DRAMA لعرض المسلسلات بكافة ألوانها ومصادرها. وفي عام 2012 تفرع عن قناة العربية قناة إخبارية أخرى هي قناة «الحدث»، وفي العام نفسه تم إطلاق قناة خاصة بمصر تحت إسم MBC مصر، انطلاقا من الإيمان بأن مصر هي ركيزة الأمة العربية ومن أبرز دولها ديموغرافيا واقتصاديا وسياحيا، ومن أكثر شعوبها قدرة على الإبداع والإثراء الثقافي.

ذلك الشاب السعودي الذي صنع هذا الصرح الإعلامي ودعمه وأشرف عليه، فصار اليوم واحدا من أبرز صناع الإعلام العربي الحديث هو «الشيخ وليد بن إبراهيم بن عبدالعزيز آل إبراهيم» الرجل قليل الظهور في عالم هو أبرز الفاعلين فيه، وذلك تمسكًا بمبدأ لخصه في قوله: «لطالما آمنت بالأفعال لا بالأقوال، ودوري خلف الكاميرات وليس أمامها».

ولد الشيخ وليد في الرياض في الأول من يناير عام 1962 لأسرة نجدية معروفة هي أسرة آل إبراهيم التي يمتد نسبها إلى إبراهيم بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن عبدربه بن محمد بن حمد آل إبراهيم، وهم من آل يحيى، من آل بورماح من آل غزي من الفضول من بني لام من طيء. وكانت مساكنهم أبا الكباش في الشمال الغربي لمدينة الدرعية، ومنهم من سكن بالقرب من حريملاء والرياض وحائل. وقد أورد الشيخ عبدالله بن خميس في كتاب «معجم اليمامة» عن «أبا الكباش» التي سكنها آل إبراهيم، فقال إنها «قرية ومزارع تقع في رحبة واسعة من وداي العمارية ما بين خشم الطرف والفريدة».

أنجب مؤسس الأسرة الشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن آل إبراهيم سبعة أبناء (جبر ومحمد وعبدالله وعبدالعزيز وسعد وحمود وعبدالرحمن)، لعل أبرزهم عبدالرحمن وعبدالعزيز. فعبدالرحمن برز في عهد الدولة السعودية الثانية، وتولى في عهد الإمام فيصل بن تركي عددا من المناصب منها إمارة ضرما والبريمي وعنيزة وبريدة والأفلاج، وقيادة سرية إلى عمان، وقيادة سرية أخرى إلى بريدة للقضاء على ما كان بها من فتن وقلاقل إلى أن انتقل للإقامة بمكة المكرمة حيث توفي. وأما عبدالعزيز فقد أنجب ولدا سماه إبراهيم على أسم جده، وهذا أنجب بدوره 13 ابنا معظمهم من رجال الأعمال المرموقين، وهم: عبدالعزيز وخالد وسعود ومنصور وفهد ومحمد ووليد وبدر وماجد وسلطان ونواف وتركي وفيصل، إضافة إلى عدد من البنات إحداهن هي الأميرة الجوهرة بنت إبراهيم آل إبراهيم آخر زوجات خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، والدة سمو الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز آل سعود، وشقيقة الشيخ وليد آل إبراهيم، والتي تعد صاحبة أيادٍ بيضاء ومبادرات إنسانية واجتماعية عديدة أبرزها التبرع لإنشاء مراكز بحثية في مجال الأمراض الوراثية مثل مركز الأميرة الجوهرة للطب الجزيئي التابع لجامعة الخليج العربي بالبحرين الذي أفتتح في مارس 2009 بتكلفة بلغت 12 مليون دولار.

وهكذا يكون الجد المباشر للشيخ وليد لأبيه هو الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم آل إبراهيم (ولد عام 1880 وتوفي عام 1946) الذي كان محل ثقة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وذراعه اليمنى في تثبيت الأمن في بواكير تأسيس الدولة السعودية الثالثة، إذ كان مفاوضا من طرف الأمير محمد الطلال الرشيد إلى الملك عبدالعزيز قبل ضم حائل، وبعد ضمها عاد إلى الرياض فولاه الملك المؤسس إمارة عسير فأنهى ما كان بها من فتن وقلاقل، ثم ولاه إمارة الطائف فإمارة المدينة المنورة قبل أن يُعين في مجلس الوكلاء بمكة المكرمة الذي كان وقتها بمنزلة مجلس للوزراء حتى تاريخ وفاته.

أما والد الشيخ وليد فهو الشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز آل ابراهيم (ولد في الرياض عام 1916 وتوفي في حائل عام 1986 ونشأ في كنف والده بالمدينة المنورة، حيث عمل وهو شاب يافع في إمارة المدينة) الذي كان أميرًا للباحة من عام 1978 إلى تاريخ وفاته، وقبلها كان أميرا للقنفذة ووكيلا لإمارة منطقة مكة المكرمة ومستشارا بوزارة الداخلية ووكيلا لمنطقة عسير. وأما والدته فهي «هيا بنت عساف العساف» التي كان والدها (جد الشيخ وليد لأمه) «عساف بن حسين بن منصور بن سيف العساف المحفوظي العجمي» (ولد في الرس وتوفي في مكة) أميرا على الرس لثلاث فترات تخللها توليه إمارة الجوف وإمارة نجران، وكان قبل ذلك من قادة الملك المؤسس في معارك التوحيد، وكان قبلها ملتحقا بخدمة الشريف حسين بن علي في المدينة المنورة.

كان أول عمل قام به الشيخ وليد، في أعقاب انتهائه من دراسته العليا في ولاية أوريغون الأمريكية في الثمانينات، هو تأسيس استوديوهات ARA للإذاعة والتلفزيون في المملكة العربية السعودية، والتي أصبحت مجموعة إعلامية مكونة من العديد من شركات الإذاعة والتلفزيون التي تبث للعالم العربي. وتمكن الشيخ وليد من تسجيل مجموعته هذه في الرياض عام 1995 تحت اسم ARAvision كما تم تزويد المجموعة بترخيص حصري لتقديم خدمة الكابل اللاسلكي للمدن السعودية الرئيسة. لكن نجاحه وشهرته ارتبطا، بطبيعة الحال، بمشروعه الأهم المتمثل في قيامه في عام 1991 بتأسيس مجموعة MBC مع رجل الأعمال المعروف الشيخ صالح كامل رحمه الله، فتولى مذاك إلى اليوم رئاسة مجلس إدارتها، علما بأن MBC نجحت بعد عام واحد فقط من تأسيسها في الاستحواذ على ملكية وكالة يوناتيد برس العالمية مقابل أربعة ملايين دولار، إذ كانت هذه الوكالة الأخبارية العتيدة معروضة للبيع آنذاك بسبب إفلاسها.

تزوج الشيخ وليد من إبنة عمه الشيخة غادة آل إبراهيم، وبعد وفاتها اقترن بالشيخة هناء بنت عبدالله بن سعد القاسم، ورزق منهما بخالد وماجد وهيا وهالة ونورة وعبدالعزيز.

وتقديرا لإسهاماته في الارتقاء بمستوى الإعلام العربي وجهوده في تطوير القنوات التلفزيونية والمحطات الاذاعية على المستوى العربي والاقليمي، حظي الشيخ وليد بالعديد من التكريمات والجوائز. ففي عام 2005 اختارته مجلة أموال ضمن أفضل 20 رجلًا من رجال الأعمال في الخليج، وفي عام 2007 وضعته مجلة «إرابيان بيزنس» في المرتبة السابعة والعشرين ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة، وفي عام 2006 تلقى جائزة «فارس» من الجامعة العربية، وفي عام 2007 نال جائزة «الشخصية الأكثر ابداعا» من قبل مهرجان «دبي لينكس» في دورته الرابعة ثم جائزة «شخصية العام» في دورته العاشرة عام 2016. وفي عام 2012 وضعته صحيفة غلف نيوز في المرتبة السادسة والستين على مستوى العالم ضمن الشخصيات العربية الأكثر تأثيرا بسبب مكانته البارزة في الإعلام العربي، وفي العام نفسه عادت مجلة ارابيان بيزنس وصنفته في المرتبة الرابعة والعشرين في العالم العربي ضمن الأكثر نفوذا من بين 500 شخص آخر، وشهد العام 2016 تقلده وسام الإستقلال من الدرجة الأولى من يد العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بن الحسين. وفي مايو عام 2015 إختاره منتدى الإعلام العربي السنوي في دبي خلال دورته الرابعة عشرة كشخصية العام الإعلامية. وفي عام 2017 تم منحه جائزة «التألق في صناعة الإعلام» خلال الدورة السادسة لحفل جوائز MCF Media Awards من مؤسسة مي شدياق للإعلام في العاصمة اللبنانية بيروت، وفي عام 2018 أختير من قبل موقع variety 500 ضمن أكثر 500 شخصية مؤثرة عالميا في صناعة الترفيه والإعلام. إلى ذلك، حظي الشيخ وليد بعضوية المجلس الاستشاري لكلية محمد بن راشد للاتصالات MBRSC في الجامعة الأمريكية بدبي.

قلنا إن الشيخ وليد مقل في ظهوره الإعلامي، لكنه قبل ذات مرة ان يُستضاف في حوار صحفي شامل. كان ذلك في عام 2014 حينما أجرى الأستاذ عادل الطريفي (وزير الإعلام السعودي الأسبق)، وكان وقتها رئيسا لتحرير صحيفة الشرق الأوسط، حوارا نادرا معه، يستشف القاريء من خلاله مدى وضوح الرؤية لدى الرجل في كل ما له علاقة بالإعلام الحديث، ناهيك عن مدى طموحاته في صناعة إعلام عربي رائد يتواكب مع مستجدات الكون التكنولوجية، وماهية هواجسه المتعلقة بمجموعة MBC التي يمتلكها ويترأس مجلس إدارتها.

قال الشيخ وليد إن أكثر ما يخشاه على الإعلام يتمثل في «الذهنيات القديمة والنظرة الضيّقة إلى المنافسة، خصوصًا عندما تكون غير شريفة وتتّبع أساليب ملتوية، كما هو حاصل اليوم مع عدد من الوسائل الإعلامية التي تأخذ الإعلام في اتجاهات خاطئة، فتغلب لغة الشتيمة والمبالغة والضغط على لغة الوقار والمهنية واقتصاد السوق. كما أخشى على الإعلام من تقييد الحريات وجنوحه نحو التطرّف في وجه الاعتدال، ومن الإرهاب الفكري والجسدي الذي يهدّد الإعلاميين في مناطق النزاعات، وكذلك من تمادي القرصنة وسرقة المحتوى»، مضيفا أن هدفه هو «الاستمرار في العمل على توسيع السوق الإعلامية العربية، لتحظى بميزانيات تتيح لها المنافسة والتفوّق في منطقتنا وخارجها. وهذا لا يتم إلا عبر توسيع حجم السوق الإعلانية، وبناء اقتصاديات المعرفة، وتعزيز ثقافة العمل والإنتاج».

وفي إجابة له حول أسباب انتقال امبراطوريته الإعلامية من لندن إلى دبي عام 2002، قال: «ذهبنا آنذاك إلى لندن بحثًا عن الاستقرار والأمن والأمان، والحريات العامة والخاصة، والذهنية المتطوّرة، والمهنية والإبداع، والمبادرة الفردية وريادة الأعمال، لكن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أعادنا إلى قلب العالم العربي، ووفّر لنا ولغيرنا في دبي ما كنا نحلم به أصلًا عند توجهنا إلى لندن، وأكثر! وهكذا، انتقلت مجموعة MBC إلى دبي، وأحدث ذلك الانتقال نقلة نوعية، على كافة الصعد والمستويات. لقد قلتُ وأُردّد أن الشيخ محمد بن راشد هو شعلة.. كلّما اقتربت منها، اقتديْت بنورها، ولمست دفأها. لا شك في أن وجودنا في دبي، كان له الأثر الأهم، كون هذه المدينة الحالمة والشامخة هي قاطرة النجاحات المتلاحقة على مدى السنوات الماضية، وذلك بفضل العين الساهرة للقيادة الإماراتية، والعقل المستنير والرؤية الثاقبة للشيخ محمد، والتسهيلات المتوفرة في الإمارة، والذهنية المنفتحة.. فضلًا عن القدرة التنافسية العالية، والكلفة التشغيلية الأقل مقارنة مع تلك التي تترتّب على أي مجموعة إعلامية في بريطانيا أو سواها من الدول في أوروبا أو العالم. بصراحة، ما يلفتني في دبي هو ذلك التواضع مقابل هذا الكم من الإنجازات؛ فكلّما كبر الإنجاز، تواضع باني دبي».

ويرى الشيخ وليد أن أكثر التحديات التي تواجهه اليوم ومستقبلا يتمثل في التقدم والتفوق، متمنيا في الوقت نفسه ألا تصل مجموعته يوما إلى حالة الرضا التام كيلا تقع في فخ الغرور، كما يرى انه من الضروري في قطاع حيوي ومتغير كقطاع الإعلام والترفيه، وفي ظل ثورة المعلومات والإتصالات الهائلة، أن يتم استشراف المتغيرات التكنولوجية التي تنعكس بصورة أو بأخرى على أنماط وأشكال وأوقات استهلاك المحتوى الإعلامي من قبل الجمهور، لا سيما الشباب، بحيث يبقى التلفاز هو المصدر الرئيس للمعلومات والترفيه، وهذا يتطلب - بحسبه - توفير المحتوى الإعلامي بطريقة مدمجة، متعددة الشاشات والمنصات عبر الاعتماد على أحدث تقنيات التواصل والتفاعل الجماهيرية.

وحول فكرة إطلاق قناة إخبارية عالمية باللغة الإنجليزية تغطي القارات الخمس، نجد أن الشيخ وليد ليس من محبذيها لأسباب منها أن مسألة الدخول في منافسة مع قنوات إخبارية عالمية في عقر دارها تتطلب إمكانات وعقلية مهنية غير عادية، وحينما لا تتوافر تلك المعايير لا يمكن تحقيق النجاح المنشود والجدوى الاقتصادية للمشروع. ولكي يبرهن على صحة رؤيته هذه، توقف أمام تجربة قنوات رياضية تعاقدت على حقوق بث مباريات وسباقات عالمية بمبالغ خيالية، من دون أن تتمكّن حتى من تحقيق عائدات تجارية تُذكر.