"رياح معاكسة متعددة ضربت اقتصاد أوروبا هذا الشتاء"
باولو جنتلوني، المفوض الاقتصادي الأوروبي
كان الأوروبيون سعداء جدا مطلع العام الحالي، بفعل التحسن الملموس الذي شهده اقتصاد منطقة اليورو التي تضم 19 دولة. إلى درجة أن هذا الاقتصاد تفوق بالفعل على اقتصادي الولايات المتحدة والصين على صعيد النمو، ولا سيما بعد فك قيود إجراءات الإغلاق التي تسببت فيها جائحة كورونا، والانتشار الواسع للقاحات. ولأن الأمر كذلك، فقد تلكأت كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، في تخفيف حزم الإنقاذ الهائلة التي تمتعت بها المنطقة خلال زمن الجائحة. فقد فضلت أن تبقي على مستوى الفائدة عند حدودها الصفرية، في الوقت الذي أقدمت فيه الولايات المتحدة على رفعها بعد أعوام عديدة من الإبقاء عليها منخفضة جدا. السعادة الأوروبية لم تستمر طويلا، لتتلقى الضربة تلو الأخرى من اضطراب سلاسل إمدادات التوريد، وبالطبع من ارتفاع مذهل لمعدلات التضخم، نالت كل الاقتصادات حول العالم.
النمو الأوروبي السريع والمرتفع لم يصمد أمام العاملين المشار إليهما، في حين نشبت الحرب الروسية - الأوكرانية لتزيد من علامات الاستفهام حول مسار الاقتصاد الأوروبي عموما، واقتصاد منطقة اليورو خصوصا، التي تتمتع بناتج محلي إجمالي بلغ 14 تريليون يورو تقريبا. الأنظار تتجه إلى "المركزي الأوروبي" حول تعاطيه مع آفة التضخم المتعاظمة، رغم اعتراف المشرعين الأوروبيين بقوتها. فكريستين لاجارد، أكدت حديثا، أن البيانات الواردة إليها تدعم وجهة نظر "المركزي" بشأن توقعات التضخم خلال الفترة المقبلة. ولأن الأمر كذلك، فإنها تعتزم اختتام برنامج شراء الأصول APP في الربع الثالث من العام الجاري، كما كان مخططا. ما يعني أنها ستلجأ - كغيرها من حكام أغلب البنوك المركزية في الدول المتقدمة - إلى رفع معدل الفائدة، الآلية الأكثر حضورا في مثل هذه الحالة.
الحديث في أوروبا لم يعد يدور حول الآثار التي تركتها كورونا في هذه القارة التي تشهد واحدة من أخطر الحروب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فإذا كان بالإمكان التخلص من هذه الآثار عبر فتح الاقتصادات ورفع القيود وفتح آفاق جديدة، فالحرب في أوكرانيا يمكنها أن تأكل كل النتائج الإيجابية في الحراك الاقتصادي الجديد، أو لنقل حراك ما بعد الجائحة. فالصراع العسكري في القارة العجوز بدأ بالفعل يضرب الاستثمار التجاري، والأسر الأوروبية توجهت إلى تقليل إنفاقها، وسط بيئة عامة يطغى عليها التشاؤم. وبحسب رئيسة البنك المركزي الأوروبي، فكلما طال أمد الحرب زادت التكاليف الاقتصادية، وارتفع احتمال أن ينتهي الأمر في منطقة اليورو بسيناريوهات أكثر سلبية. وهذا صحيح تماما. فلا توجد آثار إيجابية لأي حرب بصرف النظر عن مكانها وزمانها.
في الشهر الماضي، بلغ معدل التضخم في منطقة اليورو مستوى قياسيا حقا بواقع 7.5 في المائة. فالحرب في أوكرانيا رفعت على الفور أسعار الطاقة بأنواعها ومعها أسعار المواد الغذائية. علما بأن التضخم وصل إلى هذا المستوى مرتفعا من 5.9 في المائة خلال شهر شباط (فبراير) الماضي. وهذه الأرقام مذهلة أيضا من جهة أنها الأعلى منذ بدء عمل المكتب الأوروبي للإحصاءات "يوروسات" عام 1997. في ظل هذا الوضع، اضطرت الحكومات الأوروبية إلى ضخ بعد الدعم للأسر، حتى إن فرنسا لجأت إلى قسائم المعونة - التي تم العمل بها خلال الحرب العالمية الثانية - لتخفيف الضغوط المعيشية على مواطنيها. ما يجعل الصورة أكثر قتامة، في وقت لا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن أن تصل الحرب على الساحة الأوكرانية.
أسعار الطاقة وفق "مركز الإحصاءات الأوروبي"، ارتفعت في الشهر الماضي على أساس سنوي 44.7 في المائة، بعد ارتفاع بلغ 32 في المائة في الشهر الذي سبقه. الأمر الذي يعزز الضغوط على الحكومات في هذه المنطقة، ويدفعها بسرعة لرفع الفائدة بصورة تدريجية وربما بمعدلات أكبر، بصرف النظر عن الآثار السلبية لمثل هذه الخطوة على النمو. فالمسألة لم تعد تختص بمستقبل النمو، في ظل مشهد خطير ومتغير على مدار الساعة. ويعترف روبرت هولزمان، عضو "المركزي الأوروبي"، بأن الفائدة السلبية أمر غير عادي لدى هذا "المركزي"، و"رفع الفائدة بشكل طفيف سيجعلنا نتحرك وراء منحى التضخم". من هنا، تأتي الحاجة إلى زيادة الفائدة، وإن كان في وقت متأخر من العام الجاري. فمن المتوقع أن تتم هذه الخطوة في الشهر أيلول (سبتمبر) المقبل، في حال تم التوقف عن شراء السندات خلال تموز (يوليو) المقبل.
ورفع الفائدة لكبح جماح التضخم يلقى تأييدا كبيرا من حكام البنوك المركزية في منطقة اليورو، بمن فيهم رئيس البنك الألماني، الذي يخشى - وهذا أمر طبيعي - من أن الرفع الكبير للفائدة سيؤدي حتما لضرب مسار النمو. كأنه يقول: لا بد من اتباع سياسة أقل صرامة بهذا الخصوص. لكن أحدا لا يمكنه أن يضمن في النهاية أن الزيادات البسيطة أو المتواضعة قادرة على وضع حد لتضخم تاريخي من حيث المستوى، وفي زمن أوروبي يشهد حربا هي الأكبر على الإطلاق منذ الحرب الثانية، وآثارا لم تنته لجائحة عالمية لم تكن متوقعة على الإطلاق.
- آخر تحديث :
التعليقات