سيكون من المبكّر جدّاً أن نستشرف صورة لِما سيكون عليه العالم، وقُواه وأقطابه، من توازناتٍ جديدة في ضوء نتائج ما يجري على أرض أوكرانيا من صراعٍ بين روسيا والغرب. يقول الكرملين إنّ العملية العسكرية ستتوقف فقط حين تتحصل روسيا أهدافَها منها، إنْ بالتّفاوض أو بالسلاح؛ ويتوقّع البيت الأبيض أن تستغرق العملية وقتاً طويلاً. وفي الحالين، لن نشهد على نهاية سريعة تسمح بقراءة النّتائج وبناء التوقّعات على نحوٍ معلومِ المعطيات.
مع ذلك، تتراءى في أفق ما يجري من معارك، وما يتولّد منها من نتائج أمنية وسياسية، علائم تحوّلاتٍ قادمة شرعت في الإفصاح عن نفسها على أنحاء مختلفة من الإفصاح، ويمكن الإيحاء إلى ثلاثٍ منها على الأقل:
أوّلها أنّ الحزم الروسي في الدفاع عن الأمن القومي، وصونه من أخطار التهديدات الأطلسية، بمقدار ما أظهر روسيا قوية وواثقة بنفسها في عيون الغربيّين، وضَع على الطاولة مسألة الأمن الأوروبي، مجدّداً، بعد عقودٍ ثلاثة من الاطمئنان الأوروبي لأمن القارة؛ الاطمئنان الذي ارتَكَزَ على معتقدين: زوال التّهديد الرّوسي بعد انحلال الإطار السوفييتي وانكفاء روسيا إلى حدودها القومية؛ ونجاعة الغطاء الأطلسي في تقديم ضمانات الأمن لأوروبا، وتوسيع مساحة ذلك الأمن، بضم دول شرق أوروبا والجمهوريات السوفييتية السابقة إليه، بما يجعلها عازلاً جغرافياً يعزل روسيا عن أوروبا «الحقيقيّة» (الغربيّة سابقاً).
ضَربتِ العملية الروسية في أوكرانيا هذه العقيدةَ في مقتل، وكشفت عما ينطوي عليه الأمن الأوروبي من هشاشة وبالتّالي، زعزعت اطمئنان دول أوروبا إلى منظومة الأمن المستقرة، منذ نهاية أربعينات القرن العشرين، والمعززة بتمدد «النّاتو» منذ تسعينات القرن عينِه. وتتبن، منذ الآن، نتيجتان أمنيّتان وسياسيّتان لتصدع هذه العقيدة واهتزاز هذا الاطمئنان في شكل ستنقسم عليه أوروبا إلى دائرتين في العلاقة بالأطلسي:
الدائرة الأولى دائرة الدّول التي تعبّر، تقليديّاً، عن رغبتها في الاستقلال بنظام الأمن الأوروبي عن الإطار الأطلسي، وتدعو إلى تكوين «جيش أوروبيّ موحّد»، مثل ألمانيا وفرنسا ومن تدور في فلكهما من دول. ستتعزّز لدى هذه الدّائرة من الدّول نزعة الاستقلال عن الأطلسي أكثر بعد الذي جرى. ومن علامات ذلك إعلان ألمانيا - ولأوّل مرّة منذ الحرب العالمية الثانية- عن رفع ميزانيتها العسكرية إلى مائة مليار يورو، أي ضِعف مخصصات روسيا لبرامجها الدفاعية السنوية. وما من شكّ في أنّ فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها ستحذو حذوها في هذا.
والدائرة الثانية دائرة دول شرق أوروبا التي ستجد نفسها تحت سلطان «النّاتو»، أكثر فأكثر، أمام الخوف من مصائر شبيهة بمصير أوكرانيا. وقد تصبح، لهذا السبب، القواعدَ المتقدمة للأطلسي في مواجهته روسيا.
وثالثها أنّ المجال الأوروبيّ سيشهد على عسكرةٍ لا سابقَ لها حتى في حقبة الحرب الباردة. ستزيد روسيا من تسليح نفسها كلما وطد «النّاتو» نفوذه وقواعده في شرق أوروبا، وكلما تعاظمت موجة تسلُّح دول غرب أوروبا. وستزيد فرنسا وهولندا وبلجيكا وغيرها تسليح نفسها كلما تمادت ألمانيا في التسلُّح، وعادت مع تسلحها المتسارع مخاوف الماضي. وستزيد الولايات المتحدة تمسكاً بنفوذها العسكريّ في أوروبا، ونشراً لقوّاتها وقواعدها فيها كلما شعرت بتعاظم نزعة الاستقلال عن «الأطلسيّ». ولن تكون أوروبا وحدها ميدان سباق التسلّح، بل سيشمل ذلك الصّين والهند، وربّما اليابان، لمواجهة مخاطر تمدد التّهديدات الخارجيّة. وبكلمة، ستتحوّل مسألة الأمن الإقليميّ والدوليّ إلى أمّ المسائل في السّياسات الدولية، الأمر الذي ستنعكس نتائجه على سائر وجوه العلاقات بين الدول.
ورابعها أنّ الاستقطاب الدولي بين معسكري الغرب وروسيا والصين سيترسّخ في المرحلة القادمة، أكثر فأكثر، خصوصاً في ضوء رسوخ العلاقات الصينية- الروسية وبلوغها عتباتٍ استراتيجيّة، وتعاظُم المصالح المشتركة بين الدّولتين. ولن يقتصر الاستقطاب على معسكري الدّول الكبرى، بل سيولِّد دينامية انتظامٍ لدولِ الجنوب داخل المحوريْن. ولن تكون دول مجموعة البريكس وحدها مَن ستشكل مادة قطبٍ عالمي، بل ستدخل في جملة القطب الصيني- الروسي دول عدّة من الجنوب إمّا من باب مصالحها القوميّة المتعاظمة مع الصين، أو من باب الإدراك أنّ العلاقة بروسيا مجزية أكثر؛ على الأقل في ضوء تزايد الاقتناع بأنّ واشنطن تتخلى عن حلفائها في أول معركة.
التعليقات