كل طلائع المجرات والنجوم والكواكب والأقمار لم يكن فيها ما ينذر بنشوب أزمة كونية صارت حرباً تدار كمشهد أمامي بين روسيا وأوكرانيا، وكمشهد خلفي هو الحقيقي بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
بات عجباً أن الحرب قامت رغم التعاون بين أطرافها الذي كان جارياً في الحرب ضد الإرهاب، والتعامل مع الحرب الأهلية السورية، وإنجاز الاتفاق النووي الإيراني مرة لتوقيعه (2015)، ومرة لانسحاب الولايات المتحدة منه (2018)، ومرة لعودتها مرة أخرى إلى الاتفاق (2021 - 2022). العجب الأكثر كان أن القاعدة الشائعة في العلاقات الدولية، أنه عندما يقوم اعتماد متبادل كثيف بين الدول فإنها قد تغضب من بعضها، ولكنها لا تحارب بعضها بعضاً. لم تكن هناك حالة من الاعتماد المتبادل بين روسيا ودول حلف الأطلنطي في مجال احترام الأسلحة النووية كما هو حادث قبل الأزمة؛ ولا اعتماد متبادلاً يقابل ذلك الذي قام بين الدول الأوروبية وروسيا، وهم يعتمدون عليها لإضاءة المصابيح وتشغيل المصانع، وموسكو تعتمد عليهم في الحصول على الدولار واليورو. أضف إلى كل ذلك اعتماداً متبادلاً كبيراً في أمن الجوار الجغرافي، والتجارة، وتبادل منافع شتى من الإرهاب إلى خطوط الطيران. امتد العجب إلى تلك اللحظة الفارقة ما بين الأزمة والحرب ليلة 24 فبراير (شباط) الماضي، فحتى تلك اللحظة الحزينة كانت روسيا مصممة على أن حشودها على الحدود الأوكرانية لا تعني تعبيراً عن نوايا الاجتياح، وإنما هي للفت الأنظار إلى أن روسيا لن تقبل وجود حلف الأطلنطي على حدودها. ما كان عجباً في ذلك، أنه واقع فعلاً أن دولاً أعضاء في الحلف هي لتوانيا ولاتفيا وإستونيا وتركيا لها حدود مباشرة مع روسيا وهي أعضاء في الحلف، والحقيقة أن أعضاء آخرين مثل بولندا ليسوا بعيدين عن الحدود، وحتى اليابان العضو الأصيل في التحالف الغربي هي على مرمى حجر من «فيلاد فستوك» الروسية. الحقيقة تبدو أن العجب في حقيقته مزحة؛ فالسلام الذي عاشه العالم خلال عقود ماضية وقام على «توازن الرعب النووي» لا يقيم فارقاً ما بين أسلحة نووية توجد على الحدود أو ذات الأسلحة عندما تأتي من النصف الآخر من الأرض.
توالي الأحداث لم يكن يقل عجباً؛ فتعليقاً على الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية قالت وكالة المخابرات المركزية الأميركية إنها استعداد للغزو، وفصلت في كيفية حدوثه. كان في ذلك عجب ناجم عما هو معلوم من القدرة الروسية على الكتمان؛ ولكن العجب الأكبر كان أن المعرفة الأميركية بالأمر لم تعنِ الكثير لا في ثني روسيا عن تحقيق مبتغاها، ولا في أن تقوم الولايات المتحدة بمنع الحرب من الحدوث. لم يكن لدى واشنطن أكثر من التهديد بالمقاطعة الاقتصادية التي كان لدى موسكو الكثير منها؛ فضلاً عن توقع مُبالَغ فيه بالعون الصيني طالما أقرت موسكو وبكين قبل أشهر أن تعاونهما سوف يكون «بلا حدود». في دول بهذا الحجم، فإن دروس الحكمة الاستراتيجية لا تجعل أحداً يعتمد كثيراً على كلمات جاءت في خضم احتفالات دورة ألعاب أولمبية. واضح أنه كان لدى روسيا ضعف في الحسابات الاستراتيجية، فما بدا دفعاً لحلف الأطلنطي بعيداً عن أوكرانيا، جاء مؤدياً إلى أن فنلندا والسويد (وسويسرا تفكر) اتجهتا إلى حلف الأطلنطي الذي سيكون قريباً أكثر من أي وقت مضى.
العجب في سوء التقدير لدى دول عظمى هائل، وفي الولايات المتحدة وربما نتيجة الثقافة الأميركية، فإن توقيع العقوبات الاقتصادية سوف يسبب ضغوطاً كبيرة لا يمكن احتمالها. ما ليس معلوماً هو أن الثقافة الروسية تختلف وهي التي عاشت في مواجهة مباشرة مع حربين عالميتين، وطوال عقود أثناء الحرب الباردة، وقرون بين روسيا القيصرية والأخرى السوفياتية، فإن الحرمان من الحياة الوردية لا يضغط كثيراً؛ لأنه لا يوجد تعريف واضح لهذه النوعية من الحياة. هناك دائماً قدرات كبيرة للتحمل والجَلد المغلف بنزعة وطنية كان ستالين مضطراً إلى إشعالها لكي يكسب الحرب العالمية الثانية. المدهش والعجيب، أن هذه النقطة تحديداً هي التي اختارتها الولايات المتحدة لكي تكون هدفها من الصراع، وهي «إضعاف روسيا عسكرياً وألا تكون قادرة على الانتعاش مرة أخرى بسرعة». مثل هذا يصدق عليه بيت الشعر العربي الذي قاله جرير عن الفرزدق بأنه «زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً... أبشر بطول سلامة يا مربع».
العجب بعد ذلك يمضي في تفاصيل الأزمة والحرب؛ فالعلاقات الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن قائمة لأن هناك كما يبدو الكثير الذي يمكن الحديث فيه؛ ولا بأس من وقت إلى آخر في طرد عدد من الدبلوماسيين، وساعتها سوف تكتشف أن هناك كتائب دبلوماسية لكل طرف لدى الطرف الآخر. وليس مستبعداً أن زيارة وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين (بلينكن وأوستن) إلى كييف جرى الترتيب لها مع موسكو ربما حتى لا تتقاطع الضربات الصاروخية الروسية مع زيارة الوزيرين؛ وهو ما يسبب أزمة أخرى كان مثلها يثير في عصور ماضية حروباً كبرى.
الأكثر عجباً، هو أن التسليح الغربي كله لأوكرانيا يمر عبر الأراضي الأوكرانية بحيث يستحيل إخفاؤها في الطريق، بل إن بعضاً منها يتم عن طريق السكك الحديدية الأوكرانية التي يسهل ضربها، وأحياناً تستخدم الطائرات في هذه المهمة، حيث تلتقط حمولاتها في المطارات التي يبدو أنها لا تزال تعمل. هي حرب عجيبة حقاً ومظهرها فيه بعض ملامح نظرية المؤامرة التي ذاعت في البداية، وهي أن الغرب سعى لاستدراج روسيا إلى «أفغانستان» أخرى، وهذه المرة في غرب روسيا وليس شرقها، بحيث يجري استنزافها كما حدث من قبل وانتهى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، والغرض هذه المرة هو انهيار أو ضعف روسيا. ولكن، أليس هذا ما يقوله الرئيس بوتين، فلماذا ويا للعجب لم يتجنب السقوط في هذه الهاوية؟ أم أنه يعلم بالملعوب الغربي ويعرف كيف ينتصر عليه؟
العجب بعد ذلك كثير، والتحليلات الغربية غنية بالكثير من نماذج الاقتراب من الأزمة والحرب، وجميعها يقدم سيناريوهات واحتمالات والتي مع تعددها لا تعني شيئاً، ولا يبقى سوى التعجب من حدوث ما يحدث بين أمم ودول ناضجة من حيث التقدم البشري. المدهش وسط كل هذا، أن تفاصيل الألم من تكلفة سقوط الضحايا وتدمير المدن وزحف اللاجئين والنازحين الأوكرانيين نحو دول ومدن لا يعرفونها، أم أن الحقيقة أن هؤلاء ربما كرهوا الجوار الذي كانوا واقعين فيه وقد جاء وقت الرحيل. وبينما يبدو ذلك فيه قدر ولو ضئيلاً من المعقولية، فكيف نفسر أن قوافل من هؤلاء ظهرت فجأة على الحدود الأميركية - المكسيكية؟ وإذا زاد الشعر بيتاً في هذا المقام، فإن أصل القصة كلها جرت في إقليم «الدونباس»، حيث يوجد متحدثون باللغة الروسية، وعندما يشتد وطيس القتال فإنهم يتجهون شرقاً. يا إلهي إن هناك في مولدافيا من يريد السير في هذا المسار؟!
- آخر تحديث :
التعليقات