بعد غد الجمعة تنطلق العملية الانتخابية النيابية اللبنانية، بتوجّه المقيمين المسجّلين في الدول العربية والإسلامية، الى صناديق الاقتراع، على أن ينتقل هذا الحق، يوم الأحد المقبل، الى اللبنانيين المنتشرين في الدول الأخرى، على بُعد أسبوع واحد من حلول موعد الانتخابات في كل الدوائر الموزّعة على امتداد لبنان، لتحديد الهويات السياسية لـ 128 نائباً لبنانياً، سيتشكّل منهم المجلس النيابي، حتى ربيع العام 2026.
وتكتسب الانتخابات النيابية عموماً أهمية خاصة، نظراً الى أنّ المجلس النيابي هو الرّحم التي تخرج منها كلّ السلطات الدستورية الأخرى، وفي مقدّمها، بطبيعة الحال، الحكومة ورئيس الجمهورية.

ولكنّ هذه الانتخابات لها طعم آخر، فهي تلي أكبر ثورة شهدها لبنان في العام 2019 استهدفت طبقته السياسية، وتأتي وسط انهيار مالي واقتصادي واجتماعي ندر أن شهدت دولة في العالم مثيلاً له، وتقع وسط تفاهم دولي وعربي على وجوب أن يصلح لبنان ذاته، مالياً واقتصادياً وإدارياً وسياسياً وسيادياً، تحت طائلة تركه لقدره المظلم جداً، وهي انتخابات تحتكم الى فئات شعبية مرهقة ومحبطة وجائعة وخائفة ومهاجرة.
وهذا ما رفع مستوى التحدّيات المرتبطة بهذه الانتخابات، إذ إنّ كثيرين في الداخل والخارج يعتبرون أنّ بداية إخراج لبنان من أزمته تلزمها عوامل عدّة أبرزها: ضمور نفوذ "حزب الله" في السلطات الدستورية، من أجل إقناعه بوجوب الجلوس إلى "طاولة الحلول"، وضخّ دماء جديدة في الطبقة السياسية اللبنانية ترفع، بعيداً عن الشعارات الموسمية والتسويات المعتادة، رايات الإصلاح ومكافحة الفساد وإعادة الاعتبار للمبادئ والأسس الدستورية.

ولكنّ رئيس "تيّار المستقبل" سعد الحريري أحدث، بقراره القاضي بالعزوف عن المشاركة في الانتخابات النيابية الذي انعكس" برودة" على حماوة مشاركة كانت مرجوّة من الطائفة السنية التي تشكّل قوّة انتخابية هائلة في دوائر وقوّة مؤثّرة جداً في دوائر أخرى، (أحدث) مفاجأة مدويّة دفعت بالجميع الى إعادة حساباتهم، من جهة، وسمحت لـ"حزب الله" أن يعظّم آماله في أن يحصد الائتلاف الانتخابي الذي شكّله على امتداد لبنان أكثرية، للمرّة الثانية على التوالي، من جهة أخرى.

وبهذا تحوّل اعتكاف الحريري الذي ترجمه مناصروه دعوات الى مقاطعة الاقتراع، الى نجم هذه الانتخابات، فارتاح إليه ائتلاف "حزب الله" وانزعج منه مناوئو الحزب الذين سعوا، في الداخل والخارج، من أجل التخفيف، بأقصى قدر ممكن، من تداعياته السلبية عليهم.
ولم تكن مساعي هؤلاء المستائين من إمكان لجوء شريحة واسعة من الطائفة السنيّة إلى مقاطعة الانتخابات، من دون نتيجة، بل العكس هو الصحيح، فالمرجعيات السياسية والروحية السنيّة عملت، بجهد، من أجل احتواء تداعيات قرار مقاطعة الحريري و"تيّار المستقبل".

وليس سرّاً أنّ مرجعية إقليمية مهمّة لدى الطائفة السنيّة، تتمثّل في المملكة العربيّة السعودية، دخلت بقوة على خط الحثّ على المشاركة في الانتخابات النيابية، الأمر الذي يمكن قياس مداه بالتدقيق في النشاطين الدبلوماسي والإعلامي السعوديين، لدرجة أنّ صحيفة "عكاظ" خصّصت، قبل يومين، صفحة لهذه المسألة تحت عنوان لافت: "مقاطعة الحريري... انقلاب على الطائفة السنيّة".

وقد أدّى هذا النشاط اللبناني والسعودي إلى تحويل لغز مقاطعة الحريري، قبل فكّ "طلاسمه" إلى مأزق له، إذ إنّه، في ضوء ذلك، سوف يواجه الحريري السيناريو السيّئ القائم على معادلة "خاسر - خاسر"، وفق الآتي: إذا حاز الائتلاف الذي رتّبه "حزب الله" على أكثرية ضئيلة، بسبب المقاطعة السنيّة، فإنّ من تُطلق عليهم صفة "السياديّين" سوف يحمّلون مقاطعة حليفهم السابق المسؤولية، وإذا فاز هؤلاء بهذه الأكثرية فسوف يعتبر كثيرون منهم أن لا تأثير لسعد الحريري في القواعد الشعبية، وتالياً لا حاجة إلى "استرضائه" لاحقاً.

وفي الحالتين، فإنّ خسارة سعد الحريري المعنويّة لن تكون قليلة، وسوف يحتاج، عندما يرى أنّ الزمن أصبح مؤاتياً لوقف قرار تعليق المشاركة في الحياة السياسية، الى جهود جبّارة لإزالة آثار انتخابات العام 2022.

والحريري الذي تدهورت علاقته بالمملكة العربية السعودية وخسر حاضناته الغربية، بغنى عن مأزق مماثل، لأنّه قد ينعكس، في لحظة سياسية ما، سلباً على العلاقات التي احتفظ بها وتمكّنه، حالياً، من العمل من أجل استرجاع جزء من "الأمبراطورية" المالية والسياسية التي كان قد خسرها.

أمام هذه المعطيات، ماذا يمكن أن يفعل الحريري في الوقت الضيّق الذي يفصل لبنان عن الاستحقاق النيابي؟

لا أحد يستوطن عقل الرجل، فهو، عندما اتخذ قراره بتعليق المشاركة في الحياة السياسية وبعدم المشاركة في الانتخابات النيابية، سار عكس ما كان يريده المقرّبون منه أو الحالمون بالتحالف معه.

جلّ ما فعله أنّه رفع، في الأسباب الموجبة لقراره، رايات اليأس مغلقاً نوافذ الأمل، بقوله في ذاك الثاني والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2022: "لا مجال لأيّ فرصة إيجابيّة للبنان، في ظلّ النفوذ الإيراني، والتخبّط الدولي، والانقسام الوطني".

ولكنّ الحريري لم يعمل على تحويل قراره هذا إلى نهج كان يجب أن يكوكب حوله مرجعيات وقوى وشخصيات في طائفته أوّلاً وفي الطوائف الأخرى لاحقاً، بل قال قوله هذا واستقلّ طائرته مغادراً لبنان الى دولة الإمارات العربية المتّحدة التي أتى منها، لمواصلة الاهتمام بأعماله الخاصة.

وقد تبيّن، سريعاً، أنّ قرار الحريري، ولو كانت أسبابه الموجبة تستحق العناية الفائقة، لن يؤدّي الى نزع الميثاقية الوطنية عن الانتخابات، وتالياً لن يؤدي الى تجميدها للوقوف على "خاطره".

وقد كان لافتاً للانتباه أنّ المرجعيات الإقليمية والدولية تخطّت قرار الحريري، وثابرت على ممارسة ضغوطها من أجل أن يتمّ الاستحقاق النيابي في مواعيده الدستورية.

حلفاء الحريري السابقون، كما المرجعيات التي بقيت موالية له حتى اتّخاذ قراره، لم يحاولوا فكّ طلاسم لغز رئيس "تيّار المستقبل"، بموضوعية، بل عمدوا إمّا الى "تقزيمه"، كما هي حال الرئيس نجيب ميقاتي الذي أعاده الى ظروف الحريري الشخصية، أو الى تجاوزه، كما هي عليه حال رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط الذي، بعدما مسح دموعه السياسية التي تسبّب بها قرار الحريري، سارع الى الحديث عن العلاقات التاريخية التي تربط دار المختارة بالمكوّن السنّي اللبناني، أو الى تقليل مخاطره، كما هي عليه حال رئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي روّج للعلاقة التي لا يمكن أن تضعف بين حزبه وبين "الأكثرية السنيّة السياديّة"، ومنهم من اهتمّ بشرح قرار الحريري على اعتبار أنّه لا يتضمّن أيّ دعوة لمقاطعة الاقتراع في الانتخابات النيابية، كما هي عليه حال الرئيس السنيورة والمرشحين الذين قدّموا استقالاتهم من "تيّار المستقبل"، مثل مصطفى علّوش.

ولعلّ هذا النهج في التعاطي مع قراره، أثار استياء الحريري، فترك محازبين وجمهوره، يرفعون شعار مقاطعة الانتخابات، ويعمدون الى ردّ الاتهام الموجّه الى زعيمهم على مطلقيه، بحيث أصبحت المشاركة في الانتخابات، بالنسبة لهم، هي خدمة يجري تقديمها لـ"حزب الله" عبر اعطائه الشرعية التي ينشدها، بعدما كان حلفاء الحريري سابقاً قد اعتبروا أنّ المقاطعة هي خدمة لـ"حزب الله" حتى يحصد ائتلافه أكثرية نيابية وازنة.

في الأسبوعين الأخيرين، حمل مقربون من الحريري طلبات إليه لإقناعه بتوضيح موقفه، حتى لا يغطّي أي مقاطعة سنّية للانتخابات، لكنّه امتنع عن ذلك، على قاعدة أنّه غير معني بالعملية الانتخابية، وتالياً فهو لن يصدر أيّ توجيهات لا بهذا الاتّجاه ولا بذاك، ولن يدعم تحت الطاولة هذه القوّة ولن يقف في وجه تلك.

ولكنّ كثيرين يعتبرون أن الحريري يخطئ، إذا لم يُراجع قراره هذا، لاعتبارات لبنانية وإقليمية ودولية، نظراً للعواقب التي يمكن أن تلقى عليه، بدءاً من 16 أيار، في حين أنّ توضيح موقفه من موضوع مقاطعة الاقتراع الذي غاب عن كلمة الثاني والعشرين من كانون الثاني 2022، من شأنه أن يُريحه، ويضعه في صلب معادلة: الرابح - الرابح.

مردّ هذه المعادلة أنه سيكون بريئاً من احتمال حصد "حزب الله" الأكثرية، أو من جنوح أيّ كان إلى تصوير الحريري كما لو كان من دون تأثير في حراك القواعد الشعبية، في حال انتقال الأكثرية الى فريق "السياديين" بعدما كان ائتلاف "حزب الله" قد حصدها في انتخابات العام 2018 التي شارك فيها "تيّار المستقبل"، بقوة.

وليس خافياً على خبراء الانتخابات في لبنان أنّ الطوائف غير المعسكرة اعتادت على المشاركة الضئيلة، وبالتالي فإنّ غياب ماكينة انتخابية مثل ماكينة "تيّار المستقبل"، حتى لو فسّر الحريري موقفه لمصلحة المشاركة، سيؤثّر سلباً على نسبة المشاركة.
لكنّ موقف الحريري، في حال أطلقه، من شأنه أن يعفيه من تحمّل المسؤولية في حال جرت الرياح كما تشتهيه سفن أجهزة "الحرب الناعمة" التي يستنفرها "حزب الله".

في المقابل، فإنّ على القوى التي كانت حليفة لـ"تيّار المستقبل"، ومن أجل تسهيل إقدام الحريري على الخطوة المرجوّة منه، أن تتعهّد أنّها سوف تنكبّ، فور انتهاء العمليات الانتخابية، على مناقشة "الأسباب الموجبة" التي دفعت الحريري الى تعليق مشاركته في السياسة اللبنانية كما في الاستحقاق الانتخابي، وتضع معه ومع المرجعيات اللبنانية والإقليمية خريطة طريق تهدف الى فتح كوّة في جدار "اليأس" الذي تحدّث عنه.

إنّ ما يطلبه اللبنانيون في هذه المرحلة المفصلية من المأزق الوجودي الذي يعاني منه وطنهم هو إقلاع الجميع عن صراع يبدو جليّاً أنّ "الأنا" تلعب فيه دوراً حاسماً.