تناولت عدة تقارير تباطؤ نمو مشتركي منصة نتفليكس Netflix في الربع الأول من هذا العام، وهي المنصة الأمريكية الشهيرة التي تقدم خدمات الفيديو حسب الطلب، حيث انخفض عدد مشتركي المنصة في الربع الأول من هذا العام بمقدار 200 ألف مشترك، وهي أعلى خسارة ربعية في أعداد مشتركيها خلال الأعوام العشرة الماضية. وأشار تقرير صادر عن الشركة إلى اعتقادهم في البداية أن تباطؤ أعداد المشتركين كان بسبب ارتفاع الجائحة تدريجيا، لكن النمو في أعداد المشتركين واصل الانخفاض، ما يطرح تساؤلات عن الأسباب الرئيسة وراء هذا التراجع. ووفق عدد من المحللين، فإن دوافع هذا التراجع ليست مرتبطة بتداعيات كورونا، وإن كان النمو الاستثنائي كذلك، وإنما في عوامل أخرى تتعلق بديناميكية السوق.
من أبرز الأسباب المرجحة لتراجع نمو نتفليكس هو دخول منافسين كبار لسوق الفيديو حسب الطلب، مثل: ديزني، أبل، أمازون، وتقديمهم أسعارا منافسة للمنصة صاحبة السبق، متزامنا مع رفع أسعار اشتراكات نتفليكس أخيرا. أيضا استخدام أكثر من مشترك لبيانات دخول واحدة تسبب في تراجع نمو المشتركين الذين يحققون إيرادات فعلية للشركة كان سببا آخر. هذه الأسباب وغيرها حثت الشركة على التفكير في تقديم حزم أخرى من الاشتراك لزيادة الإيرادات، مثل تقديم خدمة الإعلانات خلال البث، لكن عبر اشتراكات أقل ثمنا من الفيديوهات الخالية من الإعلانات.
أوردت هذا المثال لما يتمتع به نموذج نتفليكس من إشادة وإشارة إلى نموذج عملها كأحد النماذج الناجحة في عالم الشركات الابتكارية وإيجاد سوق جديدة خالية من المنافسين، وهو ما اشتهر عليه بمصطلح "المحيط الأزرق"، وبالفعل يدرس نموذج نتفليكس في عديد من كليات ومعاهد ريادة وإدارة الأعمال. لكن هل كان من تنبؤ عن احتمالية تراجع إيرادات الشركة أو انتقالها من المحيط الأزرق إلى الأحمر "السوق المتشبعة بالمنافسين" حاضرا قبل ثلاثة أعوام؟ لا أعتقد ذلك.
خلال حضوري إحدى المحاضرات عن ريادة الأعمال في أحد المعاهد العالمية المرموقة، تحدث المحاضر، وهو أستاذ مختص في الشركات الناشئة وتمويلها، عن عدم دقة مصطلح المحيط الأزرق، حيث لا يمكن استكشاف المحيط الأزرق إلا بالدخول في السوق والتجربة. فلو كانت الأسواق المستحدثة أو الجديدة قابلة للاستكشاف لسارعت الشركات وأصحاب رؤوس الأموال إلى دخولها والاستثمار فيها رأسا، لكن يظل كثير من التجارب رهن الاستكشاف والمحاولة، ويكتنفها الغموض وعدم اليقين. إن مرحلة عدم اليقين uncertainty هي من أبرز صفات الشركات الريادية، فنجاحها إلى جانب عوامل أخرى مرهون بالتوقيت المناسب، وتقبل المستفيد للمنتج أو الخدمة.
وكما أن للمنتج دورة حياة، فللشركات دورة حياة أيضا، خصوصا المرتبطة بالخدمات والمنتجات الابتكارية. فقصة نتفليكس تعطي تصورا عن المراحل التي مرت بها الشركة من استحداث سوق جديدة، ثم نمو مطرد في إيراداتها وعملائها، ما فتح شهية المنافسين المحتملين للمزاحمة على شريحة العملاء تلك، ويعقب ذلك تراجع مبيعات الشركة أو استحداث نماذج عمل جديدة لمواجهة هذا التغير. أخيرا، يظل التنبؤ أداة مهمة لاستكشاف الفرص في الأسواق وله وسائله وأدواته، لكن يبقى عدم اليقين مرتبطا بعالم الأعمال والأسواق.