الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية روسيا الاتحادية دولتان لو قدر لهما أن يتواجها بسبب الحرب في أوكرانيا، فسيكون ذلك إيذانا بتعطل الحياة وذهاب العالم إلى فناء تدريجي وحتمي؛ لأنهما قوتان مدججتان بالسلاح النووي الذي تتوافر له كل الوسائل والدعائم التقنية عالية التطور التي توجهه في ساعة صفر الوجهة المستهدفة. وما كان العالم ليقف على شفير هاوية حرب عالمية ثالثة لو أن دول الغرب بقيادة أمريكا تفهمت المخاوف الروسية ودفعت أوكرانيا مبكرا إلى قبول وضعها دولة محايدة، لكن مجريات الحرب تشي بأن دول حلف الناتو لم تكن ترغب في أوكرانيا محايدة، بل إنها عملت على جرها إلى ما هي عليه جرا جُندت له كل الوسائل الظاهرة المعلنة والمخفية السرية؛ ولهذا يتم التداول في الإعلام بأن الحرب الأوكرانية هي فخ منصوب لاستنزاف جمهورية روسيا، ولعل ما يشير إلى صحة هذا التداول هذا التجانس العجيب والوحدة المريبة في مواقف الدول الأوروبية من العقوبات ومن المساعدات العسكرية المهولة التي تدعم بها أوكرانيا.

الواقع يقول إن لكل من هاتين الدولتين نفوذه في العالم ولكل منهما أدواته للتأثير في حلفائه؛ وإن كان للأولى النفوذ الأوسع بحكم دورها الحاسم في نتائج الحرب العالمية الثانية، وما اكتسبته من الصراع المرير الذي كان بين الاتحاد السوفيتي الذي ورثته روسيا الاتحادية بكل محمولاته من الصيت والسمعة إيجابيها وسلبيها. انتهى مآل الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة إلى السقوط وتشظت مكوناته السياسية، التي كانت تضم خمس عشرة دولة، إلى دول وكيانات مستقلة تتفاوت في الحجم والتأثير، ولعل الأكبر حجما وتأثيرا هي جمهورية روسيا الاتحادية، وهو الوضع ذاته الذي كان لها بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي فهي التي أنشأت هذا الكيان السياسي والقطب العالمي وهي التي أعلنت نهايته، وها هي بعد أن استردت بعضا من عافيتها وهيبتها تنشد بناء واقع جيو-إستراتيجي جديد ينهي الغطرسة الأمريكية أو يحد منها ويخرج العالم من هيمنة قطب واحد. ولهذا فإن روسيا اليوم تريد من المجتمع الدول أن ينظر لها بوصفها دولة عظمى لها من المكانة والهيبة والتأثير ما كان للاتحاد السوفيتي السابق، وتؤسس لواقع دبلوماسي جديد أي تقليل فيه من مكانة روسيا الجديدة إهانة للروس تمس من كرامتهم وعزتهم القومية.

مهددات نشوب حرب نووية شاملة لم يعدمها العالم في ظل الصراع السوفيتي الأمريكي المستمر حتى سقوط الدولة السوفيتية في بداية التسعينيات، فقد حصلت في محطات تاريخية بالغة الخطورة ولعل أزمة الصورايخ الكوبية في عام 1962 هي التي جعلت العالم أكثر قربا من اندلاع هذه الحرب بعد جريمة إلقاء الولايات المتحدة القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية. غير أن القناعة بعدم وجود منتصر في هذه الحرب هو ما يمنع وقوعها. فوجود هذا السلاح لدى دولة واحدة يعد تهديدا لباقي الدول، ولكن وجوده لدى أكثر من دولة يعد رادعا لنشوب حرب نووية. اليوم في ظل النزاع الروسي ودول حلف الناتو يتجدد الحديث عن احتمالية اندلاع مثل هذه الحرب. فهل تحدث هذه الحرب خاصة وقد كشفت الحرب الأكرانية تفوقا روسيا ساحقا في تكنولوجيا الصواريخ فائقة السرعة ( فرط صوتية )؟

لا شك أن تصادم المصالح بين دولتين نوويتين في حجم الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية يثير مخاوف من إندلاع حرب بينهما، فما بالك بحرب مجرياتها محتدمة فوق أراضي أوكرانيا، وهي دولة تشكل مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة لتستكمل مسعاها في تطويق روسيا وخنقها، كما أن لروسيا أيضا مصلحة استراتيجية تتمثل في إبعاد تهديد حلف الناتو وحماية الأمن القومي الروسي ولا نعتقد أن ذلك يتحقق إلا بالتزام أوكرانيا الحياد، وهو واحد من أهم أسباب الحرب. تبقى الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا وإسراف دول حلف الناتو بقيادة أمريكا في الإغداق بالسلاح على حكومة فلوديمير زيلنسكي، والإمعان في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا لم تنتج إلى حد الساعة سوى مشكلات تفتك باقتصاديات دول العالم عموما ودول غرب أوروبا وروسيا خاصة، من العناصر التي تديم مقومات الحرب بتهيئة المعين الحراري لاستمرار اتقادها. فمثلما أسهمت أمريكا في زرع أسباب الحرب وقرع طبولها قبل أن تندلع عليها اليوم أن تسهم في جهود إحلال وقف إطلاق النار فهي الدولة صاحبة التأثير في سلطة الحكم القائمة في أوكرانيا وفي دول الاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو.

في تصوري، إضافة إلى ما تقدم، أن هناك مشكلة أسهم الإعلام الغربي فيها، وعلى وجه الخصوص الإعلام الأمريكي والبريطاني، وتتمثل في إشغال الرأي العام بما يُنقل من مجريات الحرب نقلا غير دقيق لا علاقة له بحقيقة ما يجري على أرض المعركة في أوكرانيا، وفي الغوص- قبل الحرب وفي أثنائها- عميقا في شيطنة روسيا بأشكال متنوعة من بينها قراءات نفسية لشخصية بوتين نتائجها أن الرجل مجنون ومهووس بالقوة ودكتاتور في مقابل إضفاء مسحة ملائكية وملحمية على الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وكل ذلك؛ لاستدرار عطف شعوبها وشعوب العالم حتى تتبنى موقفا مضادا لروسيا، بل وللروس عامة. وما فات هذا الإعلام أن الشعوب هي التي تدفع ثمن الحروب غاليا، وأن ما يجري ليس في صالح الشعب الأوكراني المسكين الذي زج له في حرب لا ذنب له فيها إلا قدر الجغرافيا والتاريخ التي جعلته مجاورا لروسيا.