"الولايات المتحدة ملتزمة تجاه منطقة جنوب شرق آسيا على المدى الطويل"
كاميلا هاريس، نائبة رئيس الولايات المتحدة
اقتطع الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعض الوقت للاهتمام بمستقبل العلاقات بين بلاده ورابطة دول جنوب شرقي آسيا "آسيان"، وهذا الاهتمام تأخر بعض الشيء منذ وصوله إلى البيت الأبيض، رغم أن إدارته وضعت استراتيجية معلنة تستهدف تقليص النفوذ الصيني المتنامي على الساحة العالمية، ولا سيما في هذه المنطقة الجارة لبكين. الحرب في أوكرانيا رهنت في الواقع أغلب الأدوات السياسية الأمريكية لمصلحتها، يضاف إليها الجوانب العسكرية والاقتصادية. حتى إن بعض المسؤولين الأمريكيين اعترفوا بنقص الحزم من جانب واشنطن حيال "آسيان"، التي تمثل في النهاية بؤرة محورية للتنافس الصيني - الأمريكي على المدى البعيد. فأي دولة مركزية على الساحة الدولية، لا بد أن تبني علاقات وطيدة مع مجموعة الدول التي يصل عددها إلى عشر، في منطقة متفاعلة على الدوام.
والحق أن الحضور الصيني يبقى الأقوى ضمن هذه الرابطة، ولأن الأمر كذلك، لا بد من النظر باهتمام شديد إلى القمة الأخيرة التي عقدها الرئيس الأمريكي في واشنطن مع قادة "آسيان" وهي الأولى من نوعها. كان لا بد من هذه الخطوة رغم أنها لم توفر الزخم المطلوب لمخططات الولايات المتحدة مع دول الرابطة الآسيوية. ففي الوقت الذي تمكن فيه بايدن من انتزاع موافقة المؤسسات الأمريكية العليا على تقديم مساعدات لأوكرانيا تصل قيمتها إلى 40 مليار دولار، اقتصاديا وعسكريا وإنسانيا، لم يخرج من حافظة الرئيس الأمريكي لـ "آسيان" سوى 150 مليون دولار تغطي مبادرات جديدة. واعترف بمدى ضحالة هذه الأموال الداعمة، إلا أنه وعد بتعديل الوضع في مرحلة لاحقة. ولا شك في اندفاع الإدارة الأمريكية على هذه الساحة، وحرصها على تأمين أعلى مستوى من العلاقات معها.
وبدا هذا واضحا من إعلان هذه الإدارة خططا لإرسال سفير لـ "آسيان" لأول مرة منذ خمسة أعوام. أما لماذا لم يكن هناك ممثل على مستوى سفير في تلك الفترة؟ فلأن إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لم تكن تعتقد أهمية بناء علاقات وطيدة مع دول الرابطة الآسيوية، واكتفت بموفد إليها فقط. وانطلق ترمب في هذا المجال من مبدئه الذي أعلنه قبل انتخابه رئيسا، الذي يقوم على عدم التوسع في العلاقات الدولية "المكلفة" ماليا، ما يدعم تلقائيا شعاره الشهير "أمريكا أولا". وبصرف النظر عن نجاعة المفهوم الذي تغير تماما بوصول بايدن إلى البيت الأبيض، فإن المواجهة الناجحة مع الصين لا يمكن أن تتم فقط عبر حرب تجارية معها "كما حدث خلال فترة ترمب" أو من خلال "منغصات" سياسية واتهامات لم تتوقف بين أكبر اقتصادين في العالم.
الأهمية الاستراتيجية لـ "آسيان" حيوية واضحة، وواشنطن تعي تماما هذه النقطة، وكانت كاميلا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، واضحة بقولها أمام قادة الرابطة: إن "الولايات المتحدة كدولة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ستكون حاضرة وستستمر في الانخراط في جنوب شرق آسيا لأجيال مقبلة". وهذا يعني كثيرا حتى بالنسبة لدولة كروسيا، التي تخوض حربا في أوكرانيا تفضل موسكو أن تصفها بـ "حرب بالوكالة مع واشنطن". فالرئيس فلاديمير بوتين كان مطمئنا تماما بمفهوم دونالد ترمب لهذه المنطقة وطبيعة العلاقة معها، لكنه اليوم وجد نفسه أمام مفهوم جديد تماما، يمثل "تهديدا" لرؤيته لوضعية النظام العالمي الذي يرغب فيه. لكن روسيا تبقى أقل أهمية على صعيد الوقوف في وجه الإمدادات الأمريكية في جنوب شرق آسيا، مقارنة بالصين التي تقف على أرض صلبة هناك.
الولايات المتحدة أحرزت بعض التقدم في هذه المنطقة على صعيد الحرب الروسية - الأوكرانية. فالدول العشر الأعضاء في "آسيان" إما أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، أو امتنعت عن التصويت. وهذا مؤشر واضح على أن واشنطن يمكنها البناء على العلاقات "الضحلة" الراهنة وجعلها أكثر عمقا في المستقبل، دون أن ننسى، أن الجانب المالي الصيني يتفوق على الأمريكي في هذا الميدان. فبكين خصصت بالفعل مساعدات لدول الرابطة بلغت 1.5 مليار دولار، لمواجهة جائحة كورونا على مدى ثلاثة أعوام. وهذه خطوة مهمة جدا، تقرب "آسيان" إلى الصين بصرف النظر عن مستوى استدامة هذا القرب. ورغم التحرك الأمريكي النشط الراهن، إلا أن واشنطن تحتاج إلى سرعة أكبر، ولا سيما على صعيد العلاقات التجارية مع المنطقة. فقد أكد مختصون أن الولايات المتحدة تفتقر بالفعل لسياسة واضحة في هذا المجال الحيوي.
الساحة الآن مفتوحة أمام التنافس الأمريكي - الصيني في منطقة من شأنها أن تدعم هذا الجانب أو ذاك. فليست هناك مؤشرات تدل على تفاهمات ممكنة بين بكين وواشنطن، سواء في جنوب شرق آسيا أو في أي منطقة في العالم. والطرف الذي يقترب أكثر من "آسيان" سيدعم قاعدة نفوذه. وفي مثل هذه الحالات لا ضمانات للنجاح سوى بعلاقات تنموية داعمة لبعض دول الرابطة التي تعاني أزمات اقتصادية متلاحقة، وهشاشة أوضاع المعيشة.