عاد مظفر النوّاب إلى العراق ميتاً. جثمان في تابوت، ولم يعد إليه وهو حي. طالت غربة النوّاب حتى امتدت عقوداً، هو الذي فرّ من وطنه وهو لما يزل شاباً، لتتقاذفه البلدان واحداً تلو الآخر. لم يكن غريباً أن يودعه أصدقاؤه الأدباء وأبناء شعبه في جنازة مهيبة، فهو الذي حمل العراق معه أينما حلّ، وجديرة بالثناء خطوة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حين أمر بنقل جثمان الشاعر الراحل إلى بغداد ليدفن فيها وحرصه على المشاركة في تشييعه، مع أنه يبقى باعثاً على مشاعر متضاربة من الوجع والأسى أن الشاعر الذي حرم من الوطن ظفر، أخيراً، بقبرٍ فيه.

لعلّ النوّاب في هذا يكون أحسن حظاً من كثر من أدباء العراق ومثقفيها وفنانيها الذين ماتوا ودفنوا في عواصم ومدن الغربة. وقبل أيام نشر الأديب العراقي برهان شاوي المقيم، هو الآخر، في الغربة، في ألمانيا، التي يعيش فيها منذ عقود، قائمة بأكثر من سبعين اسماً لمبدعين عراقيين دفنوا في الغربة، موزعاً إياهم على البلدان التي ووريت فيها أجسادهم الثرى: سوريا، بريطانيا، فرنسا، روسيا، مصر، الدنمارك، ألمانيا، التشيك، كوستاريكا، المغرب، السويد، إيران، أمريكا، كندا، أستراليا، بلجيكا، الأردن، إيطاليا، فنلندا.

كل من وردت أسماؤهم في القائمة قامات لامعة في مجالات الإبداع المختلفة، حسبنا هنا أن نذكر منهم أسماء مثل محمد مهدي الجواهري، عبد الوهاب البياتي، هادي العلوي، بلند الحيدري، فالح عبد الجبار، فوزي كريم، رفعة الجادرجي، محمد سعيد الصكار، غائب طعمة فرمان، نازك الملائكة، عوني كرومي، شمران الياسري، لميعة عباس عمارة، سركون بولص، فايق حسن، حميد البصري، وعشرات آخرين سواهم، من النساء والرجال. وأشار شاوي كذلك إلى بضعة أسماء ماتوا في الغربة ونقلت أجسامهم، بعد وفاتهم، إلى العراق، فبالإضافة إلى مظفر النواب، هناك بدر شاكر السيّاب، قاسم محمد، حسين الموزاني وغيرهم.

لا يقل وجعاً مصير بعض من اختاروا العودة إلى العراق من مبدعيه، بعد سقوط النظام السابق، بعد منفى طويل فكان الموت يتربص بهم على أرض وطنهم، ومن هؤلاء المثقف كامل شيّاع الذي أودت بحياته رصاصة غادرة في بغداد، التي عاد إليها من منفاه في أوروبا. ومن أكثر الشهادات التي قرأتها عن المنفى، عمقاً وشجناً ووجعاً هي تلك التي كتبها شيّاع، وفيها قال إنه كان يهجس بالموت، ولأمرٍ ما لم يكن يخافه: «أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم، رغم ذلك أجد نفسي مطمئناً لأنني حين وطأتُ هذا البلد الحزين سلّمتُ نفسي لأمر القدر بقناعة ورضا. القضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت».