تستلحق تركيا نفسها إسرائيليا. من محاولة تركيا الفاشلة لكسر الحصار على غزّة في العام 2010، إلى زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ إلى أنقرة والاستقبال الاستثنائي الذي لقيه فيها، كانت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى القدس وتل أبيب لافتة.

كان لافتا، على نحو خاص، اتفاقه مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد على تأجيل آخر لعودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين. يعود هذا التأخير إلى أن إسرائيل تريد التأكّد هذه المرّة من أن تركيا تعني ما تقوله وأنّها جدّية في إعادة الحياة إلى العلاقات التاريخيّة التي ربطت بين البلدين في الماضي.

يبدو الرئيس رجب طيب أردوغان في عجلة من أمره. يعرف جيدا أن القطار فاته في ما يخص خط الأنابيب الذي ينقل الغاز من المتوسط إلى أوروبا. زايد على الجميع وخلق مشاكل مع الجميع، ليكتشف أن ثمّة نيّة لدى دول مثل اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل على التعاون في ما بينها من دون الرضوخ لتهديداته ومناوراته التي ارتدّت في نهاية المطاف على تركيا.

الرئيس رجب طيب أردوغان يبدو في عجلة من أمره. يعرف جيدا أن القطار فاته في ما يخص خط الأنابيب الذي ينقل الغاز من المتوسط إلى أوروبا

تبدو إسرائيل مستعدة لتحسين العلاقات مع تركيا، لكنها تخشى تكرار ما حصل في الماضي عندما فاجأتها أنقرة بقرارات ومواقف تزعزع العلاقات. لذلك تفضل التريث وإخضاع العلاقات إلى المزيد من الاختبارات تثبت من خلالها تركيا مدى جدّيتها، خصوصا في ما يتعلّق باستخدام "حماس" وغير "حماس" أداة في الضغط على إسرائيل من جهة ومادة لمزايدات على العرب فلسطينيا من جهة أخرى. فات الرئيس التركي أن "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران سبقته بمسافة طويلة في مجال المتاجرة بالقدس وكيفية استخدام "حماس" و"الجهاد الإسلامي".

في الواقع، حاول جاويش أوغلو إقناع لابيد بأن الموقف التركي تغيّر وأن هناك تجربة مهمة مرّت بها هذه العلاقات في نيسان - أبريل الماضي، خلال شهر رمضان، حين وقعت صدامات شديدة بين إسرائيل والفلسطينيين، وقامت الشرطة الإسرائيلية باقتحام المسجد الأقصى نحو عشر مرات. على الرغم من ذلك، بقيت قنوات الاتصال مفتوحة بين تركيا وإسرائيل.

قال لابيد، لدى استقباله نظيره التركي "لن نتظاهر أن العلاقات بيننا لم تشهد هزات. ولكن على الرغم من ذلك، كنا نعود دائما إلى الحوار والتعاون. الشعبان (التركي والإسرائيلي) لديهما تاريخ طويل، يعرفان دائماً كيف يطويان فصلاً ويفتحان آخر جديداً، وهذا ما نفعله اليوم. ونحن لا ننسى أن تركيا كانت أول دولة إسلامية اعترفت بإسرائيل في العام 1949".

واعتبر "تحسن العلاقات بين البلدين جزءاً من المسار الذي نشأ في الشرق الأوسط في أعقاب اتفاقات أبراهام (بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب) التي في أساسها تشكيل جبهة إقليمية تقف في وجه الإرهاب، وضد محاولات تقويض الاستقرار".

ردّ جاويش أوغلو، أن تركيا اتفقت مع إسرائيل على تحسين العلاقات الثنائية في العديد من المجالات، وتأسيس آليات مختلفة من الآن فصاعدا. وأكد أنه سيكون من المفيد مواصلة الحوار المستمرّ "على الرغم من الخلافات"، مشددا على ضرورة أن يكون الحوار مستندا إلى مبدأ الاحترام المتبادل لحساسيات موجودة لدى الجانبين.

ولفت إلى أنه تناول مع نظيره الإسرائيلي مسائل إقليمية تخص الجانبين، مشيراً إلى أن الحوار الذي جرى على مستوى رؤساء الدولتين في نيسان - أبريل الماضي، ساهم في جهود الحفاظ على الهدوء. وتابع، أن "القرب الجغرافي بين البلدين يجعل من تركيا وإسرائيل شريكين تجاريين".

لم يعد مطلوبا أو كافيا عودة العلاقات إلى طبيعتها بين تركيا وإسرائيل. هناك ما هو أبعد من ذلك بكثير. هذا يعني قبل أيّ شيء آخر تخلي تركيا - رجب طيب أردوغان عن أوهامها

وأشار في هذا المجال إلى أن التبادل التجاري القائم بينهما واصل ارتفاعه على الرغم من جائحة كوفيد - 19 وخلافات الماضي، ليتجاوز ثمانية مليارات دولار العام الماضي، لاسيما وأن تركيا حققت أعلى نسبة صادرات إلى إسرائيل خلال الربع الأول من العام الحالي، بقيمة 1.8 مليار دولار.

وكشف الوزير التركي أنه تحدّث مع لابيد عن مدى حساسية بلاده تجاه القدس والمسجد الأقصى، معربا عن الاستعداد التام لتركيا لدعم أيّ حوار بين فلسطين وإسرائيل.

لم يفت وزير الخارجية التركي، في محاولة واضحة لتسويق الموقف التركي فلسطينيا، التذكير بأن "حل الدولتين هو الحل الوحيد للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وأن استئناف العلاقات بين إسرائيل وتركيا سيؤثر بشكل إيجابي على تسوية الصراع".

يظلّ خط أنابيب الغاز من المتوسط إلى أوروبا بيت القصيد في الزيارة. تخشى تركيا التي تعاني من أزمة اقتصاديّة عميقة أن يفوتها القطار. لا يدري أردوغان أن الموضوع المطروح ليس موضوع الغاز والعلاقات التركيّة - الإسرائيلية فحسب، بل إنّه أوسع من ذلك. إنّه موضوع السلوك التركي عموما إن تجاه مصر أو تجاه اليونان أو تجاه قبرص. أكثر من ذلك، يظهر أن الرئيس التركي اكتشف، ربّما ليس قبل فوات الأوان، أن ليس في استطاعته استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانيّة من جهة وأن العالم تغيّر من جهة أخرى، خصوصا بعد كلّ ما يجري في أوكرانيا.

لم يعد مطلوبا أو كافيا عودة العلاقات إلى طبيعتها بين تركيا وإسرائيل. هناك ما هو أبعد من ذلك بكثير. هذا يعني قبل أيّ شيء آخر تخلي تركيا - رجب طيب أردوغان عن أوهامها التي أخذتها إلى ليبيا والتي جعلتها تفشل في لعب دور إيجابي في سوريا يخدم الشعب السوري وثورته على النظام الأقلّوي الذي على رأسه بشّار الأسد والذي تدعمه إيران، من منطلق مذهبي، بكلّ ما لديها من وسائل وميليشيات. وصل الأمر بإيران نجاحها في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتحوّل، منذ خريف العام 2015، طرفا مباشرا في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.

استطاعت تركيا تحسين علاقاتها مع المملكة العربيّة السعودية ومع دولة الإمارات العربيّة المتحدة ومع مصر. يبدو أن عليها تغيير سلوكها من أساسه كي تستطيع أن تكون جزءا من منظومة إقليميّة تلعب دورا إيجابيا في مجال استغلال الغاز الموجود في البحر المتوسّط. ثمّة حاجة، من أجل ذلك، إلى ما هو أبعد من زيارات متبادلة بين مسؤولين أتراك ومسؤولين إسرائيليين. ثمة حاجة إلى أفعال تركيّة وليس إلى مجرّد أقوال.