عكس الفوز الصعب لإيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية نفسه على النتائج الضعيفة نسبياً التي حصدها الائتلاف الداعم له في الدورة الأولى من الانتخابات النيابية، يوم الأحد الماضي.

وبدا واضحاً أنّ ماكرون فقد "السحر" الذي نقله، عام 2017، من الصفوف السياسية الخلفية في فرنسا إلى رئاسة الجمهورية، مرفقاً بدعم أكثرية نيابية مريحة.

ولقد نقل "الموسم" الانتخابي المستمر من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جرت في العاشر من نيسان/أبريل الماضي، حتى الدورة الثانية والأخيرة من الانتخابات النيابية في العشرين من حزيران/ يونيو المقبل، النجومية إلى رئيس حزب "فرنسا العصيّة" جان لوك ميلانشون الذي كان قد حصد المركز الثالث، بنسبة مرتفعة، في الانتخابات الرئاسية، وحصد، أوّل من أمس الأحد، المركز الثاني، بفارق لا يكاد يُذكر عن النتيجة التي حصدها الائتلاف الرئاسي، في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية.

وعلى الرغم من تقدّمه نسبياً في نسبة الاقتراع في هذه الدورة عمّا كان عليه مستواه في الدورات السابقة، إلّا أن "التجمّع الوطني" بزعامة مارين لوبان التي نافست ماكرون على منصب رئيس الجمهورية، حلّ في المرتبة الثالثة، وبفارق كبير، وفَقَدَ "بريقاً" كانت قد أكسبته إيّاه الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يثبت، مجدّداً، أنّ التصويت لمصلحة لوبان لا يعني انتقال شرائح واسعة من الفرنسيين إلى صفوف اليمين المتطرّف، وقد بات ممثّله النموذجي إريك زيمور الذي أثبتت الدورة الأولى للانتخابات النيابية "ضحالته الشعبية" بعدما كانت الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، قد بيّنته.

يوم الأحد المقبل، قد يتمكّن الائتلاف الرئاسي من تحقيق أغلبية مطلقة، ولكن، وإن حصل ذلك، فإنّ الرئيس ماكرون سيكون، في السنوات الخمس المقبلة التي تتشكّل منها ولايته الثانية، أضعف ممّا كان عليه، في ولايته الأولى.

عام 2017، حصد حزب ماكرون، من دون حلفائه، الأكثرية المطلقة بنسبة مريحة، ولكنّه هذه المرّة، لن يتمتّع بذلك، إذ إنّه، إذا حصل على هذه الأكثرية، وبنسبة لن تكون مريحة على الأرجح، فسوف يكون "رهينة" حليفيه الأساسيين اللذين لا يخفي أحدهما، على الأقل، وهو رئيس حزب "آفاق" إدوار فيليب الذي كان أوّل رئيس حكومة في ولاية ماكرون الأولى، طموحه الرئاسي.

وإذا كان جان لوك ميلانشون قد خسر، كما تؤكّد توقعات مؤسسات الاستطلاع الفرنسية ذات المصداقية العالية، طموحه في فرض نفسه رئيساً للحكومة، بعدما تبيّنت صعوبة حصول ائتلاف اليسار الذي كان قد شكّله على الأكثرية المطلقة في المجلس النيابي المقبل، إلّا أنّه سوف يفرض نفسه معادلة صعبة على ولاية ماكرون، إذ إنّ "الإزعاج" الذي كان يمارسه، بعدد قليل من النوّاب، في الجمعية العمومية السابقة، سوف يصبح "عقبة" لا يمكن تجاوزها بسهولة، في الجمعية العمومية الحالية، وقد انتقل إلى وضعية القوّة بعدد كبير من النوّاب.

ومشكلة ماكرون مع ميلانشون لا تكمن في أنّه يفرض نفسه في السياسة الداخلية فحسب، بل في أنّه يعمل، بلا هوادة، على أن يكون مؤثّراً في السياسة الخارجية، أيضاً، فهو لا يُلاقي الرئيس الفرنسي في طروحاته الروسية، إذ إنّه "أكثر تسامحاً" مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي طالما عبّر عن إعجابه به، ومعارض شرس للولايات المتّحدة الأميركية ولحلف شمال الأطلسي، وتتعارض طروحاته مع أكثرية توجّهات الاتحاد الأوروبي، ويقف، بصورة عامة، ضد طبيعة العلاقات الفرنسية - الخليجية.

من دون شكّ إنّ المشكلات التي سوف يُحدثها ميلانشون في مسيرة ماكرون الرئاسية، سوف تعكس نفسها على موقع فرنسا في العالم، فرئيس حزب "فرنسا العصيّة"، على الرغم من جاذبيته كرجل أجاد في تزويج العراقة مع الحداثة، يرفع شعار التحرّر في فرنسا ضدّ "أحادية" ماكرون، ولكنّه يتعاطف مع المتسلّطين والديكتاتوريين في العالم، بدءاً بروسيا مروراً بسوريا وفنزويلا وصولاً إلى الصين.

وثمّة من يعتقد أنّ نهج ميلانشون، في طريقة مقارباته المتعاطفة مع ملف "الإسلام السياسي" في فرنسا، والمعادية له في روسيا والصين والشرق الأوسط، كما في طريقة مقاربة الملفات الأمنية والمالية والاقتصادية والضرائبية "المتهاونة"، من شأنها، إذا نجحت في فرض نفسها أو في عرقلة خطط ماكرون، أن توسّع البيئة الشعبية الحاضنة لليمين المتطرّف، وتمهّد الطريق، من خلال توسيع حجم الغضب الشعبي، لوصول حزب "الجبهة الوطنية" إلى رئاسة الجمهورية في عام 2027.

ولهذا السبب، فإنّ ماكرون يعمل على تحويل الدورة الثانية للانتخابات النيابية، إلى معركة ضدّ ميلانشون بالتحديد، وذلك بالطلب من قواعده الشعبية، في الدوائر التي خرج فيها مرشحو ائتلافه من منافسة نيابية تجري بين "التجمّع الوطني" وائتلاف اليسار، الوقوف على الحياد إذا كان المرشّح ينتمي إلى حزب ميلانشون، والوقوف إلى جانت ائتلاف اليسار إذا كان المرشح من الأحزاب الحليفة لميلانشون، كالحزب الاشتراكي، لأنّ هذا الحزب، بالمحصّلة، ومهما كان موقعه في السياسة الداخلية، إلّا أنّ موقفه من مجمل النهج الاقتصادي ومن مجمل توجّهات "الاتحاد الأوروبي" متقاربة حيناً ومتشابهة أحياناً أخرى.

ومهما كانت عليه النتائج، يوم الأحد المقبل، فإن ماكرون سيكون أضعف ممّا كان عليه في بلد بات أكثر من نصف شعبه في مشكلة مع نظامه الديموقراطي، الأمر الذي يُترجم نفسه بارتفاع نسبة المقاطعة، بشكل متدرّج، سنة بعد سنة، ولا سيّما في الشريحة الشابة.

ولا يمكن النأي بالصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجها الغزو الروسي لأوكرانيا عن تعقيدات فرنسا، إذ إنّ كثيرين باتوا يعتقدون أنّ السياسة، مهما كانت الفئة التي تتولّاها، أعجز بكثير عن ملاقاة آمال الناس في إيجاد حلول لمشكلاتهم المتراكمة.

وقد يطول أمد هذا الاستياء، إذ إنّ الحرب الروسية على أوكرانيا سوف تمتد لفترة طويلة، كما أنّ التوصّل إلى سلام لن يكون طريقه معبّداً، وتالياً فإنّ "الفاتورة" التي تُسدّدها الدول الأوروبية سوف تكون باهظة، ما يجعل "الانفجارات الاجتماعية"، في بعض الأحيان، عصيّة على الاستيعاب.

وليس من باب المبالغة أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أصبح "سيّد الوقت" في حربه على أوكرانيا، يُراهن على نقاط الضعف الشعبية في "الكباش" الذي يخوض غماره مع الغرب عموماً ومع دول "الاتّحاد الأوروبي" خصوصاً التي حسبت حساباً لكلّ شيء إلّا لعودة الحرب إلى... ديارها!

بطبيعة الحال، فرنسا ليست في خطر، كما يحلو لأعدائها أن يزعموا، حتّى لو ضعفت مراكز السلطة فيها، لأنّ هذه البلاد غنيّة بالطروحات التي من شأنها أن تُداوي أمراض الديموقراطية بكثير من الديموقراطية، وهي بدأت تنهال من كلّ حدب وصوب!