يتصرف الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر وكأن الديمقراطية بألف خير في العراق. من يفز بالعدد الأكبر من الأصوات يكسب الحق في الحكم، ومن يفشل في ذلك الامتحان الديمقراطي يذهب إلى المعارضة، وهو يفعل ذلك مع أنه من داخل ما يمكن أن نسميه مؤسسة الحكم في العراق، سواء كان ذلك بالمعنى السياسي كشريك يكاد يكون دائماً في صنع القرار، أو حتى بالمعنى الديني، بالنظر إلى موقعه المتميز وموقع عائلته، منذ الصراع الطويل مع نظام البعث إلى اليوم. أي أن له خبرة طويلة بطريقة الوصول إلى الحكم، وله معرفة كذلك بهوية المعرقلين والوسائل التي يستخدمونها، والتي تتراوح بين التهديد بالسياسة والتهديد بالرصاص.
لذلك؛ تبدو شعارات مقتدى الصدر غريبة عن المألوف في العراق، من الحرب على الفاسدين إلى التضحية من أجل الوطن، إلى المطالبة بعدم عودة العراق لقمة للتبعية، من غير أن يحدد التبعية لمن؟ وفي هذا الإطار، كان قراره بالانسحاب من العملية السياسية ودعوة النواب الذين يمثلونه، وعددهم 73 نائباً، إلى الاستقالة من البرلمان.
والخلاصة التي يمكن الوصول إليها من خلال قرار الصدر، أن الرجل صار على قناعة بأن الفوز بالأكثرية في الانتخابات لا يعني أن الطريق سالكة إلى كرسي الحكم، مثلما يحصل في الأنظمة التي تعتمد هذه الطريق سبيلاً لحسم الخلافات السياسية.
جرّب الرجل كل الوسائل ليتمكن من أن يضع من يمثله على رأس حكومة يعكس تشكيلُها النتائج الأخيرة للانتخابات التي جرت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. أقام ائتلافاً أطلق عليه اسماً معبراً «إنقاذ الوطن»، ضم كتلة سنية وازنة يرأسها رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وكتلة كردية ضمت الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يمثل قسماً لا يستهان به من الصوت الكردي في العراق. وصارت لهذا الائتلاف قاعدة معتبرة في البرلمان العراقي ضمت ما يقارب 155 نائباً (من أصل 329).
غير أن هذا الائتلاف ظل يفتقر إلى الدعامة الأساسية أو إلى «الضوء الأخضر» الذي من دونه لا تستطيع الأكثرية أن تشتغل، وهو الضوء القادم من طهران، ورغم روابط وثيقة قامت في السابق بين والد مقتدى الصدر وعائلته والمرجعيات الدينية في إيران، كما أن مقتدى الصدر نفسه تابع دروسه الدينية في إيران ويزورها بشكل دوري، إلا أن القيادة الإيرانية متمثلة بالمرشد علي خامنئي وبـ«الحرس الثوري» ارتبطت بعلاقات وثيقة مع عدد من السياسيين الشيعة في العراق، الذين دأبوا على مهادنتها وتنفيذ مصالحها، من بينهم نوري المالكي، وحيدر العبادي، وهادي العامري وقيس الخزعلي. وحصل تجمع القوى الشيعية هذه المختلفة مع الصدر على 80 مقعداً في الانتخابات الأخيرة التي خاضتها تحت شعار «الإطار التنسيقي»؛ ما يعني أن المقاعد التي حصلت عليها لا تسمح لها بالوصول إلى الحكم، لكنها تسمح لها (مع القوى المتحالفة معها مثل الاتحاد الوطني الكردستاني) بالوقوف في وجه من يملك الأكثرية للوصول، وهو ما صار متعارفاً عليه بـ«الثلث المعطل»، وهو تعبير مستورد من التجربة «النموذجية» في لبنان، حيث يفعل هذا الثلث فعله في وجه الحكومات ورؤسائها، وفي وجه القرارات التي تتخذ من دون رضا هذا الثلث أو بموافقة مرجعيته المقيمة في الضاحية الجنوبية لبيروت. وقد أدى سلاح التعطيل في العراق إلى شلّ المؤسسات؛ إذ عجز النواب عن انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً لبرهم صالح، مثلما ما زالوا عاجزين عن الاتفاق على تشكيلة حكومية، في حين تستمر حكومة مصطفى الكاظمي في القيام بمهمات تصريف الأعمال.
وفي مواجهة الأزمة القائمة بين مقتدى الصدر وخصومه الذين لا يتردد في وصفهم بالفاسدين، قام القادة الإيرانيون بمساعٍ لتسوية الخلاف، كان من بين من قاموا بها قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني الذي حاول إقناع الصدر بالمشاركة في الحكم مع القوى الشيعية الأخرى في إطار «حكومة ائتلافية» وقوبل طلبه بالرفض. وكانت النتيجة أن وسائل الإعلام الإيرانية أخذت تشن حملاتها على الصدر وتتهمه بأنه ضد وحدة القوى الشيعية، وأن استقالات نوابه من البرلمان هدفها إزاحة «الإطار التنسيقي» من الساحة السياسية، في حين وصفت إحدى الصحف الإيرانية مقتدى الصدر بأنه «رجل لا يمكن التكهن بسلوكه».
وفي معركة الصلاحيات والتنافس على الحق في تولي السلطة، تطالب القوى المعارضة بقيام حكومة ائتلافية تضم مختلف القوى المتصارعة، في خطوة هدفها أمران؛ قطع الطريق على العملية الديمقراطية المتمثلة بأكثرية تحكم وأقلية تعارض، ونقل الصراعات السياسية إلى داخل مؤسسات الحكم؛ ما يؤدي إلى شل عملها وإلى فرض المعارضين آراءهم ومواقفهم من خلال منع القرارات التي لا تتفق مع مصالحهم. وهو مطلب لا تلجأ إليه هذه القوى إلا إذا كانت عاجزة عن أن تحكم بمفردها، فتقوم بالالتفاف على هذا العجز بإعطاء الانطباع بأنها منفتحة على الائتلاف والتعاطي المرن مع من يختلفون معها في الرأي.
وبصرف النظر عن تقلب مواقف مقتدى الصدر من العمل السياسي في العراق، والقرارات المتعلقة بإنشاء «جيش المهدي» والصدامات السابقة بين هذا الجيش والقوى الأمنية، فإن خطوته الأخيرة بالاعتكاف السياسي وسحب نوابه من البرلمان «إذا كانوا عقبة في وجه تشكيل الحكومة» كما قال، سوف تقلب المشهد رأساً على عقب، وتفتح الأبواب أمام احتمالات مقلقة؛ إذ إن المضي في اختيار نواب شيعة من الذين جاء ترتيبهم بعد النواب الذين فازوا من كتلة الصدر، سوف يؤدي إلى تصعيد خطير بين القوى الشيعية، وكلها قوى مسلحة؛ إذ من الصعب توقع وقوف مقتدى الصدر متفرجاً ومكتوف اليدين أمام مشهد ينجح فيه خصومه في السير بالعملية السياسية من دونه ومن دون اعتبار للأكثرية الشعبية التي منحته ثقتها.
- آخر تحديث :
التعليقات