بعد اجتماع طويل في قصر الإليزيه، واكب صدور نتائج الانتخابات النيابية الفرنسي التي خسر فيها الرئيس إيمانويل ماكرون وحلفاؤه الأغلبية المطلقة، خرجت رئيسة الحكومة إليزابيت بورن، في ساعة متقدّمة من مساء أوّل من أمس لتعلن:" يُشكّل الوضع الحالي خطراً على وطننا، في ضوء التحديات التي علينا مواجهتها".

وكان التحالف الداعم لماكرون قد نال 245 نائباً فيما الأغلبية المطلقة تحتاج الى 289 نائباً، وحصد "اليسار الموحّد" 137 نائباً و"التجمّع الوطني" 89 نائبا و"حزب الجمهوريين" 61 نائبا وتوزعت المقاعد الأخرى على مجموعات يسارية ويمينية صغيرة.

ولم يخرج ماكرون وحده خاسراً من هذه الانتخابات، ف"اليسار الموحّد" الذي خاض المعركة تحت شعار "إيصال جان لوي ميلونشان إلى رئاسة الحكومة" مُني بنكسة كبيرة، على هذا المستوى و"حزب الجمهورية" تراجعت مقاعده بنسبة تصل الى أربعين في المئة.

وحده "التجمّع الوطني" برئاسة مارين لوبان حقّق انتصاراً كبيراً وخرقاً تاريخياً غير مسبوق، إذ زاد عدد نوّابه عشرة أضعاف.

ولا يعود هذا الى قوّة هذا الحزب فقط، بل إلى أنّ الصدام الإنتخابي بين ائتلاف ماكرون وتحالف اليسار، جعل الطرفين يمتنعان عن دعم بعضهما البعض في مواجهة مرشحي التجمّع.

وقبل أن تدق إليزابيت بورن "ناقوس الخطر"، أعرب الخبراء عن اعتقادهم بأنّ فرنسا، في ظل هذا "التنوّع الحزبي" في "الجمعية الوطنية"، باتت "عصيّة على الحكم".

ويعود سبب ذلك إلى أنّ المكوّنات السياسية التي تقاسمت البرلمان الفرنسي تحمل برامج يستحيل التوفيق بينها، ف"اليسار الموحّد" لا يمكن أن يتحالف مع "اليمين المتطرّف" ولا حتى مع "وسط اليمين"، وايمانويل ماكرون لا يمكنه، بأيّ شكل من الأشكال، أن يجلس الى طاولة حكومية واحدة مع "اليسار الموحّد" ومع "اليمين المتطرّف".

التحالف الوحيد الذي يُمكن أن يُعين الرئيس الفرنسي على أن يحكم بلاده "بالحدّ الأدنى المعقول" يكون في شبك تحالف مع "حزب الجمهوريين" الذي، على الرغم من النكسة الكبيرة التي لحقت به، فرض نفسه "بيضة القبّان" في المعادلة السلطوية الفرنسية.

لكنّ أيّ تحالف بين ماكرون و"حزب الجمهوريين" لن يكون ممكناً إلّا إذا وافق ماكرون على الكلفة الكبيرة التي لا بد له من تكبّدها، إذ إنّ موافقة هذا الحزب على إنقاذ عهد ماكرون تحتاج من الرئيس الفرنسي تقديم تضحيات كبيرة، من شأنها أن تُبعد أهم رجالاته عن مواقع أساسية في المجلس النيابي وفي الحكومة، في آن.

وفي حال لم يحصل هذا التحالف، فإنّ ماكرون سيكون، في المستقبل القريب، أمام خيارين: إمّا حكم مشلول أو الدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة للغاية، بعد حلّ "الجمعية العمومية".

إذن، ومهما كان عليه الأمر، فإنّ "فرنسا في خطر".

و"الخطر" في القاموس السياسي الفرنسي الحالي يعني أن تعجز فرنسا عن مواجهة التحدّيات الداخلية، حيث تتهاوى القدرة الشرائية ويرتفع الدين العام الى مستويات مقلقة للغاية وتتعرّض الصناديق الضامنة للصحة والتقاعد لمخاطر الإفلاس، كما يعني أن تسقط فرنسا في امتحان التصدّي للتحدّيات الإقليمية والدولية التي تسبّب بها الغزو الروسي لأوكرانيا.

إذن، لا بدّ من أن يتّخذ ماكرون خطوات إنقاذية، لما فيه إنقاذ فرنسا من المخاطر التي تُحدق بها.

وإذا كان المحلّلون الفرنسيون "يُكسّرون رؤوسهم" لإيجاد المخارج الممكنة، فإنّ المحلّلين اللبنانيّين "يقلبون على ظهورهم من الضحك"، إذ إنّ الوصفة التي حملها ماكرون لإنقاذ لبنان، باتت تصلح لإنقاذ فرنسا، وتالياً فليس على ماكرون سوى الإستعانة بمستشاره الدبلوماسي بارتيك دوريل الذي لعب ولا يزال أدواراً أساسية في لبنان بهدف إخراجه من مأزقه.

في المبادرة الفرنسية الخاصة بلبنان، حمل ماكرون مشروعاً يقوم على تشكيل "حكومة شاملة" أي حكومة تلقى دعم كلّ المكوّنات السياسية اللبنانية، وأصرّ على وجوب التفاهم مع "حزب الله" على اعتبار أنّه ممثّل بإرادة الشعب اللبناني في المجلس النيابي، وطالب باختيار شخصية "جامعة" لتولّي رئاسة الحكومة، ورفض أن يتم استثناء أيّ طرف من حق المطالبة بأيّ حقيبة وزارية، في إطار "التبادلية".

وكانت الأسباب الموجبة التي دفعت ماكرون الى تقديم هذه المبادرة تتمحور حول أنّ لبنان في خطر وتالياً عليه تجميع قواه من أجل أن تعمل معاً لمنع وصول البلاد الى "السيناريو الأسوأ"، وهدّد ماكرون وفريق عمله بإنزال العقوبات بكلّ شخصية يمكن أن تقف حجر عثرة في طريق إنجاح هذه المبادرة.

حالياً، وبالركون الى ما قالته رئيسة الحكومة الفرنسية بالتوافق مع ماكرون نفسه، فإنّ ما يصح على لبنان بات يصح على فرنسا، أيضا.

في الموضوع اللبناني، إستخفّ ماكرون بجميع من رفضوا أن يشتركوا مع "حزب الله" في تشكيل الحكومة، على قاعدة أنّ "حزب الله" منتخب من الشعب اللبناني، متجاهلاً أنّ لهذا الحزب "أجندة" إقليمية يستحيل أن تتواءم مع مصلحة لبنان، وفق اعتقاد راسخ لدى فرقاء لبنانيين آخرين.

وفي الموضوع الفرنسي، يرفض ماكرون كلّ تعاون سلطوي مع "التجمّع الوطني" بزعامة مارين لوبان و"فرنسا العصيّة" بزعامة جان لوي ميلانشون، على اعتبار أنّ لديهما "أجندة" لا تتواءم مع "الأجندة" الأوروبية، ناهيك عن برنامج داخلي لا يتوافق مع برنامجه.

ماكرون يرفض ذلك، على الرغم من أنّ هذين الحزبين لا يحملان السلاح ولا ينشئان دولة ضمن الدولة ولا يملكان معابر تهريب ولا يتجنّدان لمصلحة "أجندة" خارجية تقحم فرنسا في صراع المحاور وحروبها، كما هي عليه حال "حزب الله" الذي تأفّف ماكرون من رغبة خصومه بإبعاده من "الحكومة الشاملة".

في الموضوع اللبناني، حاول ماكرون أن يفرض التفاهم بين مكوّنات سياسية تحمل برامج متعارضة، ودلّت التجربة أنّ بعضها يعطّل البعض الآخر، وأجبرها، بعدما سلّط عليها سيف العقوبات، على تقاسم الحصص.

وفي الموضوع الفرنسي، لا تُبعد الخطوط الوطنية العريضة ماكرون عن "حزب الجمهوريين"، وتالياً فإنّ تقديم الرئيس الفرنسي لهذا الحزب "الحدّ المقبول" من مطالبه، ليصنع معه أكثرية مطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية، يُبعد فرنسا عن الخطر الذي تحدّثت عنه رئيسة الحكومة التي سوف تواجه مخاطر إسقاطها، في البرلمان، لأنّ أيّ تجمّع نيابي لن يدعم بقاءها، في ظل المعادلات السلطوية الحالية، كما أنّ أيّ حكومة جديدة يتم تشكيلها، في ظل المعادلات نفسها، سوف تلاقي المصير نفسه.

صحيح أنّ الرئيس الفرنسي، وخلافاً للرئيس اللبناني، يملك أدوات حكم "سلطوية" كاللجوء الى مادة دستورية تسمح له بتمرير قانون قد يردّه المجلس النيابي، وكحقه في حلّ البرلمان والدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ فرض القوانين، بموجب هذا الحق الدستوري، سبق أن تسبّب بأزمة اجتماعية وشعبية وسياسية كبرى أطلق عليها "أزمة السترات الصفراء"، كما أنّ حلّ البرلمان، وفق التجربة التي خاضها يوماً الرئيس جاك شيراك، إرتدت سلباً عليه وأخسرته القوة التي كانت لديه، وفرضت عليه التعايش مع "حكومة الخصوم".

إنّ نتائج الانتخابات النيابية الفرنسية وضعت ماكرون أمام تحدّ كبير، على الرغم من أنّ هزيمته ليست ساحقة، فهو خسر الأغلبية المطلقة ولكنّه لم يخسر الأغلبية النسبية بحيث لا يزال الإئتلاف الداعم له، هو الأقوى في الجمعية العمومية الفرنسية، وهو يدفع ثمن انتخابه لولاية رئاسية ثانية من دون أن يكون قد مرّ ب"معمودية التعايش" التي مرّ بها من سبق له أن فاز بولاية ثانية، في الجمهورية الخامسة.

وهذا التحدّي لا يقتصر على طريقة إدارة فرنسا، في ظلّ تشرذم الأكثريات، بل يسحب نفسه على صدقية ماكرون عندما حمل المبادرات إلى عدد من الدول التي تعاني من مخاطر، كما هي عليه الحال في مبادرته اللبنانية.

قبل حلول "الربيع العربي"، جمعتني الصدفة، في باريس، بأحد أركان نظام العقيد معمّر القذافي، فراح يُلقي عليّ المواعظ عن ضرورة أن "تحبّوا أنتم اللبنانيين بعضكم بعضاً، فبلادكم جميلة فلماذا تدمّرونها بصراعاتكم".

بعد سنوات، اندلعت الثورة في ليبيا، وجرى تعيين اللبناني الأصل غسّان سلامة مبعوثاً للأمم المتحدة لإحلال السلام في ليبيا، حيث راح، بدوره، يدعو الليبيين الى "حب بعضهم البعض لأنّ ليبيا جميلة وعليهم الّا يدمّروها بأياديهم".

الوضع الحالي في فرنسا، وعلى الرغم من أنّه لم يصل-ولن يصل-الى وضع لبنان وليبيا، إلّا أنّه ذكّر كثيرين بخطاب ماكرون اللبناني، وذكّرني شخصياً بـ"عظة" المسؤول الليبي السابق.