الناخب العراقي المؤمن بضرورة التغيير لا حول له ولا قوة لكي يمنع الوجوه القديمة من العودة إلى مواقعها القديمة، لا بانتخابات ولا احتجاجات، ما دام الذي يملك القرار العراقي غير عراقي.

لا يحدث في دولة تحترم نفسها وشعبها أن يتمكن الخاسرون في الانتخابات من وراثة الرابحين، فيمتلكون الأغلبية، ويتفردون في التصرف بالبلاد والعباد دون وجع رأس.

فقد سارع الإطار التنسيقي الشيعي الموالي لإيران وشركاؤه الجدد في الخلطة الجديدة إلى عقد جلسة برلمانية استثنائية عاجلة لكي يحلف النواب الجدد اليمين الدستورية كبدلاء عن نواب التيار الصدري المستقيلين، لتنطلق محاولات تهيئة الساحة للمرحلة القادمة، على الفور.

وكشف نائب عن ائتلاف الفتح لصاحبه هادي العامري النقاب عن اتفاق الكتل السياسية على تشكيل حكومة وصفها بأنها وطنية، وفق مبادئ “التوازن والتوافق والشراكة”. وهي الشروط الثلاثة التي طلبها مسعود بارزاني ثمنا لمشاركته في حكومة يملكها ويديرها الإطار.

وليس ذلك وحسب، بل تعهد الإطاريون “بالعمل على حل الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وتشريع قانون النفط والغاز، وإعادة المناطق المحررة”، بعد أن كانوا إلى قبل ساعات يتهمون أربيل بالعمالة للموساد، ويطلقون عليها صواريخ ومسيّرات ويهددونها بالمزيد.

فالمعروف عن أحزاب الإسلام السياسي أنها تعمل دائما على مقولة تمسكن إلى أن تتمكّن. ومن المتوقع أن تختفي لغة الرقة والرومانسية السياسية التي استخدمتها في بياناتها لإعادة مسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي إلى قواعدهما السابقة في المحاصصة، لتحل محلها لغة التخوين والتجريم والمفخخات والصواريخ والمسيّرات، في قادم الأيام.

ويتساءل العراقيون عن جدوى الانتخابات، إذن، حين لا تكون نتائجها هي التي تسمح بدخول هذا إلى قبة البرلمان وتمنع ذاك، تبعا لعدد الناخبين الذين منحوه أصواتهم؟

فأيّ ديمقراطية هذه التي يستطيع فيها واحد، في ساعة غضب أن يأمر 73 نائبا بالاستقالة من البرلمان، رغم أنهم ملك الشعب، وليسوا ملك الزعيم؟

فالمؤكد أن الذين صوّتوا لمرشحي تيار مقتدى الصدر لم يكونوا كلهم، صدريين، بل كان فيهم مواطنون صدّقوا مقتدى، وتأملوا فيه خيرا، بعد أن سحرهم بوعوده القاطعة برفض التوافق مع الفاسدين، وبضم سلاح الميليشيات إلى سلاح الدولة، وترشيد الحشد الشعبي، ومحاربة الفساد، ومحاكمة كبار الفاسدين، وتحرير القرار الوطني العراقي من الوصاية الخارجية الشرقية والغربية، ووضع مهمة إطعام الجائعين، وإغاثة المحتاجين، وتوفير الخدمات التي طال انتظارها فوق جميع المهام.

ولكنه، بعد ثمانية أشهر من المواجهات والتقاطعات والمفاهمات، ترك ساحة المعركة، مانحاً الإطار وحليفيه بارزاني والحلبوسي كامل البرلمان، وكامل الحكومة والجيش والأمن والمال والنفط والمياه والحدود، وأعاد، بجرة قلم، وطنه المتعب الحزين إلى زمن المقايضات بين البيت الشيعي والبيت الكردي والبيت السني، وإلى سياسة (هذه الوزارة لي، وتلك المؤسسة لك)، وكأنَّ أحدا من شباب الانتفاضة لم يُقتل بكواتم الطرف الثالث المجهول، وكأن المئات منهم لم يُختطفوا ويُغيَّبوا، وكأن آلافا من عوائلهم لم تُهجّر أو تغادر الوطن خوفا من الانتقام.


وليس سرا أن أهم أسباب حالة الإحباط التي عجّلت بغضب مقتدى وقراره مغادرة الميدان هو ما اكتشفه، من طرف خفي، من تحركات يقوم بها حليفه مسعود بارزاني، من وراء الستار، لمد جسور التفاهم مع خصومه الإطاريين. فقد أرسل بنكين ريكاني إلى هادي العامري لمغازلته وليؤكد له استعداده لدعم تكليفه برئاسة الحكومة، وثم بعث بفؤاد حسين إلى نوري المالكي ليقول له إن أحسن أيام الحزب الديمقراطي الكردستاني كانت أيام رئاسته للوزراء.

والشيء نفسه فعله محمد الحلبوسي الذي تعهد للإطاريين، مبكرا، من وراء ظهر حليفه مقتدى، بأن يكون معهم وفي خدمتهم، وأن تحالفه مع الصدر لن يدوم. ولعل هذه هي غلطة مقتدى الذي اعتقد بأن في إمكانه تحقيق الإصلاح بحلفاء هم في حاجة إلى إصلاح.

شيء آخر. لقد أوصى مقتدى حليفه الكردي بارزاني، والآخر السني الحلبوسي، بمقاومة ضغوط الإطاريين، وعدم المشاركة في حكومتهم الفاسدة، إلا أنهما سرعان ما خيَّبا أمله، وغدرا به، وعادا أدراجهما إلى قواعدهما في (خلطة العطار)، ليُبرهنا على أن المبادئ والقيم ومصالح الوطن هي آخر ما يشغلهم، وأنهم، فقط، مع أيّ قوي يسيطر على الوزارات والسفارات والصفقات.

بالمناسبة. لقد كان الإطاريون يتهمون بارزاني بالعمالة للموساد، ويقصفونه بالصواريخ والمسيّرات لتأديبه، ثم عادوا فاعتبروه وطنيا يستحق منهم أن يعملوا على “حل الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وتشريع قانون النفط والغاز، وإعادة المناطق المحررة”، وكان الله يحب المحسنين.

ورغم أنف الناخبين، وبغض النظر عن نتائج الانتخابات، يظل شيعة المحاصصة وسنتها وكردها، رغم كل خلافاتهم وصراعاتهم على المكاسب والمناصب والرواتب، متفاهمين ومتفقين على احترام الحدود الصارمة الفاصلة بين مستعمراتهم الثلاث، شيعتستان وسنتستان وكردستان، وعدم تجاوزها، إلا عند الضرورة، وبالتراضي.

أما الناخب العراقي المؤمن بضرورة التغيير فلا حول له ولا قوة لكي يمنع الوجوه القديمة من العودة إلى مواقعها القديمة، لا بانتخابات ولا احتجاجات، ما دام الذي يملك القرار العراقي غير عراقي، وما زالت القوة القادرة على اقتلاع العملية السياسية الفاسدة، برمتها، وإقامة نظام سياسي جديد مفقودة لم يحن وقت ولادتها بعد.

ترى ماذا لو قبل مقتدى الصدر بالتوافق مع الإطار، فور إعلان نتائج الانتخابات، حتى لو كان نوري المالكي على رأسه، وفرَض شروطه، وأخذ نصف مجلس النواب، ونصف الحكومة، وترَك للخصومة النصف، أما كان حصَرهم في الزاوية، وأنقذ الوطن وأهله من لعبة (بيني وبينك ضيعناها)، فيريح ويستريح؟