عندما أعلن بنيامين نتنياهو الأسباب الثلاثة التي دفعته إلى الموافقة على وقف إطلاق النار في إطار عملية "سهام الشمال" التي استهدفت "حزب الله" في كل من لبنان وسوريا، تحدث عن ثلاثة أسباب "آنية" و"فانية": إعادة ملء مخازن الجيش الإسرائيلي بالصواريخ الاستراتيجية، إعطاء مرحلة راحة لوحدات الجيش الإسرائيلي ولا سيما منها وحدات الاحتياط، تركيز الجهود على خطة خاصة بإيران! وبما أنّ الخطة الخاصة بإيران أصبحت منجزة، وينتظر تنفيذها "الدخول الثاني" لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض، انتفى المعطيان الآخران، فوحدات الاحتياط أخذت قسطها من الراحة ومخازن الصواريخ الاستراتيجية أُعيد ملؤها، الأمر الذي يعني أنّ نتنياهو بات مستعداً لإحياء عملية "سهام الشمال". ولإعادة تفعيل الحرب ضد "حزب الله" شعبية كبيرة في إسرائيل عموماً وفي شمالها خصوصاً، إذ لم تتم بعد إعادة السكان إلى منازلهم، بل مددت الحكومة توفير رعايتهم المالية والاجتماعية، في "مناطق الإجلاء" حتى آذار (مارس) المقبل، في ظل شكوى عارمة من هؤلاء بسبب وقف إطلاق النار، قبل التأكد من أن "حزب الله" قد لفظ أنفاسه الأخيرة، على اعتبار أنّ هؤلاء لا يثقون، مثلهم مثل الحزب، لا بالاتفاقيات الدولية، ولا باليونيفيل، ولا بالضمانات الأميركية، ولا بالجيش اللبناني. وبناء على هذه المعطيات، تتحرك إسرائيل في كل من لبنان وسوريا، من دون أن تتأثر، مطلقاً، بالاتهامات الموجهة إليها بخرق اتفاق وقف إطلاق النار، أو التعدي على السيادة السورية، حتى بعد سقوط نظام بشار الأسد. تبرر إسرائيل ما تقوم به على قاعدة الضرورة، فهي، حتى يصبح الجيش اللبناني المدعوم من اليونيفيل جاهزاً، سياسيّاً ولوجستيّاً، لتنفيذ الاتفاق بصرامة تمنع تكرار سيناريو ما بعد وقف حرب تموز (يوليو) 2006، سوف تفرض بقواتها الاتفاق، لجهة منع "حزب الله" من القيام بأي خطوة عسكرية، بما فيها سحب ما بقي من ترسانته العسكرية من جنوب نهر الليطاني إلى شماله، ومنع إدخال أي أسلحة جديدة من البحر والجو والبر، والحيلولة دون تمكينه من صنع الصواريخ والمسيّرات أو إعادة تركيبها. عمليّاً تفهم إسرائيل الاتفاق الذي وقعته مع لبنان بأنّه يقضي بحل الجناح العسكري لـ"حزب الله" ونزع سلاحه، إذ إنّ التطبيق الجدي للقرار 1701 يقضي بتنفيذ القرارين التأسيسيين اللذين يقضيان بنزع سلاح هذا التنظيم العسكري ومنع تمرير السلاح له عبر الحدود، أي القرارين 1559 و1680! وتتحجج إسرائيل في التعدي على السيادة السورية، بمسألتين: عدم ثقتها بـ"سلمية" القيادة الجديدة من جهة، وشكوكها بإمكان أن يكون "حزب الله" والحرس الثوري الإيراني قد احتفظا بنفوذ لهما داخل المناطق المحاذية للجولان وداخل الوحدات الاستراتيجية في الجيش السوري المنهار، من جهة أخرى! وهي، في مساعيها لتحقيق أهدافها، لا تكترث، واقعيّاً، لسقوط وقف إطلاق النار، بل هي، قد تكون في مكان ما تستدعيه. تكتيكياً واستراتيجيّاً، لم يعد "حزب الله" يملك أيّ قدرة للدخول في حرب مع إسرائيل، فهو فقد سيطرته الفعلية على مواقعه في سوريا، حيث كانت لديه أهم مخازن الصواريخ والمسيّرات، كما أخسره سقوط النظام السوري القدرة على إعادة ملء مخازنه، بعدما تهدم الكوريدور الشيعي فوق رأس بشار الأسد، بالإضافة الى اكتشافه حجم الخسائر البشرية المذهل، وسط بحث مستمر عن مصير ألف مقاتل، ومواجهته تحديات بيئته الحاضنة التي تحمّله مسؤولية الدمار المذهل الذي أتى أكبر بضعفين ونصف من الدمار الذي تسببت به حرب العام 2006. ولا يمكن اعتبار "الصمت الأميركي" عمّا تقوم به إسرائيل، في ظل اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه بمشاركة فرنسا، على أنّه "عجز"، بقدر ما هو نوع من أنواع التواطؤ، إذ إنّ مصلحة الولايات المتحدة الأميركية التي ستشرف هي على تنفيذ الاتفاق وتطبيق القرار 1701، تكمن في أنها تريد الاستفادة ممّا تقوم به إسرائيل، لتتمكن، في المرحلة المقبلة، من فرض شروطها على لبنان ومن خلاله على "حزب الله". وعليه، فإنّ إسرائيل غير الآبهة بعودة الحرب، تنظر إلى "حزب الله" كقوة عاجزة عن خوض غمار المواجهة، مرة جديدة! وستبقى الضغوط الإسرائيلية على وتيرتها، وقد ترتفع في الآتي من الأيّام، وعينها، في هذا السياق، على التحضيرات السياسية للانتخابات الرئاسية، إذ إنّها، وبموافقة أميركية ضمنية، تريد أن تتأكد من أن الرئيس الجديد للجمهورية لن يربط نفسه بأيّ اتفاقيات ضمنية مع "حزب الله"، بحيث يعينه على استعادة قوته العسكرية، في المرحلة المقبلة. وفي الفهم الإسرائيلي لما تقوم به، يوجد ما يمكن اعتباره "تحصين" الرئيس المقبل من مناورات "حزب الله"، بحيث لا يستعيد بالسياسة ما خسره في الميدان! بناء على ذلك، تعمل إسرائيل على إفهام الطامحين إلى استلام السلطة التنفيذية في لبنان، إلى أنّ "الرقص مع حزب الله" سيكون على صفيح الحرب، وبالتالي لا بدّ من فض الشراكة الأمنية والعسكرية، بين الدولة والحزب، إلى الأبد!