في تتبعنا لمنظومة الفكر العربي الإسلامي وتحولاته ومناهجه وتفاعلاته ومآلاته وعلاقاته بالآخر الغربي والتي كان منشؤها الظاهرة الاستعمارية والتي أفضت إلى هذا التوتر التاريخي بين العرب والغرب.

نقف على قراءات وتناولات بعض المفكرين العرب حول هذه الظاهرة والتجاذبات التي حدثت بين الفكرة العلمانية والفكر العربي الحديث.

إذ ينزع بعض المفكرين العرب ومن بينهم الشيخ صالح الحصين والدكتور محمد أركون والدكتور برهان غليون إلى أن الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية أعادت نفسها من جديد وقربت بين مجتمعاتها ومجموعاتها ولكن ليس بروح الإنسانية وإنما بروح الشك والحذر والتوجس فأنكفأت إلى قوميات وأحزاب ومذاهب وشوفينيات كانت حياة مفتقرة إلى ضمان.

فهذا برتراند رسل فيلسوف لاديني يقرر أنه لم يعد للمذاهب العقدية ولا القواعد التقليدية للأخلاق والسلوك سلطانها الذي كان لها من قبل وكثيراً ما يستولي الشك على تفكير الناس فيما هو حق وما هو باطل.

وذلك كما يقول الدكتور هوفمان بسبب الشعور بالاغتراب وفقدان البراءة والانفصال عن الواقع وغياب المعنى وأي هدف أسمى للحياة وذلك من جراء النقص الروحي والذي ينذر بتحويل الوجود الفردي إلى مهمة بائسة ويائسة عديمة المعنى يصاحبها ورطة تشكيكية أكدت للناس أن المستقبل لا يحمل ما يتوقعونه. وعندنا تجربة تاريخية في ثقافتنا العربية فالضغط الاستعماري والتغريب الثقافي الذي حدث مطلع القرن التاسع عشر والذي لا تزال آثاره باقية إلى اليوم تجربة تاريخية مشوهة تبعث على التقزز.

ذلك إن الضربة الحقيقية التي تلقاها المجتمع العربي لم تكن في عقائده ومنظوماته القيمية والأخلاقية فهو من أكثر المجتمعات الإنسانية قدرة على إنتاج الأخلاق والقيم والأفكار والمذاهب على مدى التاريخ، وذلك لوجود هذه التقاليد التعددية الدينية والعقلية، في بنيته التاريخية ولكنها كانت تكمن في التهديم الموضوعي والتشويه التاريخي الممنهج الذي تعرص له تاريخياً والذي أظهر في صورة العاجز عن اللحاق بركب الحضارة مقارنة بالنماذج التاريخية الأخرى.

ولا يزال المجتمع العربي والإسلامي لم يخرج بعد من دائرة هذا الاتهام والتشويه التاريخي الممنهج الذي يمس نموذجه الحضاري.

وكان من نتائج هذا التشويه التاريخي الممنهج للمنظومة العربية الإسلامية أن فقدت المنظومة وحدتها وعالميتها وقوتها وتشتت الذهنية الإسلامية ولم تعد الأفكار والتصورات المرتبطة بها قادرة على دفع الناس نحو الإخلاص كما كانت تفعل من قبل لتكوين أمة واحدة متكافلة متضامنة وأصبح إسلامنا مجرد منظمات حزبية وتجمعات مغلقة مذهبيًا على نفسها، لا تقوم بأي تبادل مع غيرها من التجمعات الأخرى إلا من أجل الممانعة والمناكفة والمعارضة والمنافسة.

بالتأكيد ليس مصدر هذا البؤس الأخلاقي الإسلام ولا الأخلاقية الإسلامية، وإنما القناعات المنحازة وانعدام التوازن والذي مبعثه التأويل الأوروبي للدين، وعدم قدرة النظام الأخلاقي التقليدي على توليد الضوابط الداخلية الوجدانية القادرة على لجم ميول السيطرة والنزاعات الغريزية التي ترافق أزمة النمو والتطور وترتبط بها، وسبب هذا العجز هو بالضبط عجز الفكر الإسلامي التقليدي عن ترجمة الرسالة الإسلامية إلى واقع وغرسها في النفوس وتجديد أسسه ومنطلقاته بما يمكنه من التحكم بالواقع الجديد، وإبداع الرسائل المعنوية والرمزية والفكرية اللازمة للدخول بالعمق في نفس الإنسان وبناء وجدانه القوي وغرس الفضيلة فيه من جديد وبناء قوته الذاتية، فقد اقتصر هم الفكر الإسلامي الحديث على الانشغال بالاستعمار والتغريب ومشاكلهما وتناقضات العصر.

لقد كان إيمان المرحلة الإسلامية الأولى ضمانة حقيقية وقوية لتنمية الحس الأخلاقي وتكوين الضمير الفردي والجمعي، إلا أن تجربة العصر الحديثة وما رافقها من عصرية المعرفة وتنمية الحس الدنيوي أورثت النزعة الدنيوية المفرطة والسلوك الأناني المادي والذات الفردية، لذلك لم ترث المجتمعات العربية الحديثة نظامًا أخلاقيًا قويًا وحقيقيًا أثناء دخولها في العصر الحديث.

وإذا كان الفكر العربي قد انهار مع أول ضربة وجهتها القوة الاستعمارية ذلك لأنه قد أصبح على درجة كبيرة من الوهن والضعف وهذا يؤكد على أن الخطاب الإسلامي التقليدي قد أخفق في تحويل رسالة الإسلام إلى مصدر لتربية ضمير الإنسان وإعداده للقيام بوظيفته الدينية والمدنية معًا، في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الدين أحد النوابض الإنسانية الكبرى لحمل التجربة الإنســانيـة ودفــع التجربة الأخلاقية الحضارية بقوة إلى الأمام فـــي العــالــم أجمع.

وفي هذا يؤكد الدكتور محمد أركون أن البعد الديني ليس أمرًا يمكن أن يضاف إلى الإنسان أو يحذف منه، وإنما هو أمر لصيق بالوجود الإنساني، فالتوتر الروحي الداخلي والحنين للخلود والأبدية يشكلان بعدًا أساسيًا من أبعاد الإنسان، فالإنسان بحاجة إلى أن يتجاوز شرطه المادي من وقت لآخر لكي يعانق شيئًا آخر أكثر دوامًا واتساعًا، ولا يمكن أن نبتر الإنسان عن هذا البعد الأساسي من أبعاده، لكل هذا فإن الدكتور أركون يرفض المقولة العلمانية السطحية الشائعة، الدين لله والوطن للجميع.

إن عدم طرح إشكالية العلمانية في الفكر العربي الإسلامي قبل العصر الحديث يجد تفسيره في كون الإسلام هو الذي أسس بنفسه للحيز المدني وشرع له. فالطابع المدني للفكر الإسلامي هو الذي ساعد على تجذره في المجتمع وجعله شديد الارتباط والتماهي مع ما نطلق عليه اليوم المجتمع المدني، ومن أهم العوامل التي عززت هذا الطابع المدني غياب فكرة المؤسسة أو السلطة الدينية المعصومة في الإسلام وانفتاح مجال الاجتهاد بحرية أمام الجميع.

فالسر في حيوية الإسلام وتجدده التاريخي، رغم كل ما تعرض له من أزمات، يكمن أساساً في طبيعته المدنية، ذلك أن غياب السلطان الديني في الإسلام كان يعني وما يزال، عدم إمكانية استهلاكه من قبل أية سلطة زمنية استهلاكاً نهائياً أو مشروعاً، هذه الخاصية تجعل من الإسلام، كدين ومركز تضامن جمعي، قادر على إحياء نفسه واسترجاع مصداقيته باستمرار. والذي يفسر القوة الهائلة التي يتمتع بها.

إن قدرة الإسلام الدائمة على تجاوز التاريخي والمعاش كامنة في حيز الحرية والاجتهاد، أو باختصار في انفتاحه العام على جميع الطبقات واستيعابه العقل واجتهاداته المتغيرة. وهو ما أعطى للإسلام شخصية فذة جرى التعبير عنها بروح الإسلام؛ تلك الروح التي تعبر عن الحيوية الذاتية العميقة التي تختزن إمكانية تجدد لا نهائي، وإنجاب النماذج التاريخية بالعودة إلى النفس الأول للمبادئ والأصول، أي التجدد ضمن الاستمرارية.