مع استمرار «الانسداد السياسي» في العراق، تواصل حكومة مصطفى الكاظمي مهمتَها تصريفَ الأعمال منذ استقالتها، إثر الانتخابات النيابية قبل نحو 8 أشهر، وبما أنها لا تستطيع إحالة مشروع موازنة العام الحالي إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره تمهيداً لتنفيذه، فهي تقوم بصرف نفقاتها على القاعدة «الإثني عشرية»، بانتظار توافق الأحزاب السياسية على تشكيل حكومة جديدة، مع العلم أن كل تأخير في تشكيلها ينعكس سلباً على حياة المواطن، ويعرقل تنفيذَ المشاريع الاستثمارية ويؤخر مسيرةَ الاقتصاد العراقي.
وفي غياب الموازنة، ومع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار النفط لتتجاوز 116 دولاراً للبرميل، سجَّل العراقُ إيراداتٍ نفطيةً قياسيةً بمعدل 10 مليارات دولار شهرياً، ويُقدَّر أن تبلغ العام الحالي بكامله 120 مليار دولار، الأمر الذي يحوّل الموازنةَ التي أعدتها وزارةُ المالية نهايةَ العام الماضي على أساس 75 دولاراً كسعر للبرميل من عجز إلى فائض قد يتجاوز 25 مليار دولار، مما يساهم في تعزيز احتياطي البنك المركزي البالغ 70 مليار دولار، وتمكين الحكومة من تنفيذ خطتها الرامية إلى تسديد الدين الداخلي المقدَّر بنحو 50 مليار دولار خلال ثلاث سنوات (2022–2024)، وهو يعادل ضعف الدين الخارجي البالغ 23 مليار دولار.
لكن المخاوف التي تسود أوساط العراقيين تتعلق بطغيان «الفساد» باعتباره المسبب الأخطر لهدر المال العام، لاسيما بعدما «تحوّله من ظاهرة مرفوضة إلى ثقافة عامة وسلوك لقوى السلطة». وقد عمّقت هذه الثقافةَ طبيعةُ الهيمنة على مؤسسات الدولة.
ومن المفارقات الخطيرة، أن العراق ينتج حالياً 4.5 مليون برميل يومياً، وهو عملاق نفطي وثاني منتج في «أوبك»، ويقدر احتياطيه المثبت بنحو 150 مليار برميل، ويشكل ثالث أكبر احتياطي في العالم. ورغم ذلك فهو عاجز عن إنتاج حاجته الاستهلاكية، حيث يستورد مشتقات نفطية بقيمة 4 مليارات دولار سنوياً.
ومن صور الفساد وسوء الإدارة، أنه مضى عشر سنوات على بناء مصفاة كربلاء، التي كان مقرراً أن تبدأ الإنتاج في بداية عام2021، لكنها لم تُنجَزْ حتى الآن، وقد بلغت تكلفتها أكثر من 6 مليارات دولار، بينما التكلفة الحقيقية وفق المعيار الدولي لا تزيد على 4 مليارات. وفي صورة أخرى للفساد، يحرق العراق كميات من الغاز الطبيعي بما قيمته 7 مليارات دولار سنوياً، ويدفع فاتورةً كبيرة ثمناً لمستورداته من الغاز من مصادر مختلفة.
ومع تراكم الخسائر، يأتي تحذير وكالة الطاقة الدولية من مضار حرق الغاز على صحة المواطنين، ومطالبتها للعراق بتنفيذ تغيير أساسي لطريقة إنتاج واستهلاك الطاقة، عبر حرق كميات أقل من الوقود الأحفوري للوصول إلى انبعاثات صفرية، بما يؤدي إلى انخفاض الاستهلاك العالمي من 90 مليون برميل يومياً في الوقت الحالي إلى نحو 25 مليون برميل بحلول عام 2050، وبالتالي تقليص الإيرادات المالية للدول المنتجة نحو 75% عند منتصف القرن.
وبما أن إنتاج النفط والغاز في العراق يشكل نحو 40% من مجمل انبعاثات الاحتباس الحراري، فالأمر يحتّم معالجة هذه المشكلة الخطيرة، لاسيما لجهة وقف حرق الغاز المصاحب، مع العلم أن البلاد تمتلك مخزوناً يقدّر بنحو 132 تريليون قدم مكعب، وقد تم حرق 700 مليار قدم منها، بسبب ضعف القدرة على استثماره، نتيجةَ الفساد المستحكم بالمنظومة السياسية الحاكمة، وهو ما فتئ يستورد من إيران عبر أنبوبين بواقع 20 مليون قدم مكعبة يومياً لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية.
ولمواجهة هذا الواقع والحد من خسائره، يتفاءل وزير النفط إحسان عبد الجبار بتعزيز قدرة العراق على استثمار الغاز الطبيعي الحر والمصاحب للنفط، في إطار تنفيذ خطة إنتاجية كبرى، تؤمّن حاجة الاستهلاك المحلي وتُحدِث نقلةً نوعيةً نحو التصدير في عام 2025.
- آخر تحديث :
التعليقات