انتهت فكرة التّسامح والفكرة الإنسانويّة إلى عصر الأنوار ورسَخت فيه بعد رحلةٍ مديدة من البناء والتّطوير انطلقت من الحروب الدينيّة حتّى آخر القرن السّابع عشر. وقد تضافرت الفكرتان معاً، داخل بيئة فكرية أنوارية متقدّمة، كي تشكّلا عامودين في صرح فكرةٍ أنواريّة جديدة، صاغها كَنْت صياغةً فلسفيّة رفيعة، هي فكرة الكونيّة.

ومن البيّن أنّ التّسويغ للكونية لا يمتكن أمرُه إلاّ متى وقع الانتقال بالتّفكير من نطاق المجتمع السّياسيّ الوطنيّ إلى المجتمع الإنسانيّ العالميّ العابر لحدود الأوطان والقوميّات؛ ومن نطاق مفهوم المواطن إلى رحاب مفهوم الإنسان. وهذا الانتقال يفترض قطيعة مع كلّ انغلاق على الذّات والتّعصُّب لها، وتأسيساً جديداً لرؤية إلى العالم يكون الإنسان محورَها وفي قلبها. ولقد غَطَّتْ تينك الحاجتيْن فكرةُ التّسامح والفكرة الإنسانوية إلى حد بعيد.

ومع ما يفصل ماديّة مفكّرٍ مثل كارل ماركس عن مثاليّة مفكّر آخر مثل إيمانويل كَنْت من مسافةٍ معرفيّة شاسعة، إلاّ أنّهما اجتمعا معاً على فكرةٍ واحدة؛ كل من موقعٍ هي: الكونيّة. ليستِ الأمميّة التي تطلع إليها ماركس إلاّ شكلاً آخر لِكونيّة كَنْت. ولكنّ الأخيرةَ أوسعُ منها لأنّها إنسانيّة شاملة، بينما هي عند ماركس - ولو في صورة مباشرة أولى منها- پروليتاريّة، طبقيّة. ولكن لأمميّة ماركس العمّاليّة ما يبرّرها. وليس ما يبرّرها سوى الرّأسمال الذي حطم حدوده القوميّة فبات عالمياً، وفي الوقت عينِه، وحَّد مصالحَ قُواه من المالكين. وهذا ما سوّغ لماركس الدّفاع عن أمميّة العمل ووحدة قواه.

غير أنّ الفكرةَ الكونيّة، ببعدها الإنسانيّ، ستستمرّ في الإفصاح عن نفسها في إنتاج مفكّرين كثر تشبّعوا بالقيم الإنسانويّة ولم تمنعهم قوميّاتُهم، التي ينتمون إليها وإلى أُطرها الكيانيّة السّياسيّة، من رؤية المشتَرَك الإنساني العابر لحدود الأوطان والأمم. وهي رؤية أَلَحَّتْ على كثيرين منهم من معاينة تجربة الحروب المريرة بين القوميّات في أوروبا القرن التّاسع عشر، وأَطْلَعَهُم ذلك على الحاجة إلى سلامٍ بين الشّعوب والأمم نظيرَ تلك السِّلم الاجتماعيّة، التي أنْهَتِ الحروب الأهليّة في المجتمع الواحد، وكرّست علاقات التّعاقد الاجتماعيّ وصانت كيان الجماعة السّياسيّة من التّصدّع، فكانتِ الدّولة الوطنيّة الحديثة من ثمراتها الرّفيعة.

وجدَت الفكرة الكونيّة طريقها إلى «التّطبيق» السّياسيّ الجزئيّ تحت وطأة حربيْن عالميَّتيْن مَهُولتين: في صيغة «عصبة الأمم»، ابتداءً، ثم في صيغة «الأمم المتّحدة» والقانون الدّوليّ الشّامل. لم يكن ما جرى في التجربتين ترجمة سياسيّة أمينةً ومطابقةً للفكرة؛ كان، بالأحرى، تزويراً فاضحاً لها وتحايلاً عليها وإيحاء بالعمل بأحكامها. وآيُ ذلك أنّ العالم لم يكن، بهاتين الصّيغتين - وخاصّة الثانية منهما التي استمرّت لما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن حتّى الآن -، يحكُم نفسَه بنفسه، وتقوم علاقاتُ شعوبه وأُممه على التّعاوُن والسّلم والعيش المشتَرك والمساواة في الحقوق والفُرص، بل ظلّ محكوماً من قِبَل القوى ذات السّلطة والنّفوذ في العالم، ممن تتحكم في النّظام الدّولي ومؤسّساته؛ وظلّ مَبْنى العلاقات فيه على الحروب الظّالمة والتّحيُّف في حقوق الأَضْعفين واحتكار السّلطة والثّروة من قِبَل الكِبار المتنفّذين.

مع ذلك؛ مع كلّ ذلك التّلاعُب السّياسيّ الدّوليّ بالفكرة الكونيّة والسّياسيّة، ظلَّ شيءٌ منها قابلاً لتثمينه والبناءِ عليه (على الرّغم من أنّه لم يُفْلِت، بدوره، من ذلك التّلاعب به)؛ مثل كونيّة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطّفل، وكونيّة التّراث الإنسانيّ في منظّمة اليونيسكو، وكونيّة القوانين المتعلّقة بالبيئة والسّيادة السّاحليّة وسوى ذلك من القوانين. ثمّ ظلّ إلى جانب ذلك تيّار شعبي - غير حكوميّ - عالمي التّكوين والمصادر لحركاتٍ إنسانيّةِ المضمون والهدف تأتلف للدّفاع عن قضايا عادلة على الصّعيد الإنساني برمته: مناصرة حقّ الشّعوب المهضومةُ حقوقها في استعادة ما سُلِب منها؛ مناهضة الحروب؛ مناهضة سياسات تدمير البيئة؛ مناهضة العولمة المُجحِفة...، وهذه جميعُها من المكتسبات الكبيرة للفكرة الإنسانويّة في تجسُّداتها الماديّةِ الاجتماعيّة.

لكنّ الأسفَ كبيرٌ لأنّ هذا الجَهْد الإنسانويّ لا يحتلّ إلاّ مساحةً صغيرة من صورةِ عالمِ اليوم! أمّا المساحات الأعظم فتحتلُّها سياساتٌ نقيض تسعى، كلّ يوم، في تدمير كلّ التّراث الإنسانويّ. وآيُ ذلك أنّ العنصريّة، والانجحارَ المتجدِّدَ في جحور الهُوِيّات، هو ما يطغى اليوم في العلاقات بين النّاس في العالم. ونحن لسنا، هنا، في مَعْرِض بيان حدودِ إمكان تحقُّق الفكرةِ الإنسانويّة في نظامٍ عالميّ موحَّد قائمٍ عليها؛ ولا في معْرض مناقشة مدى طوبويّتها أو واقعيّتها، وإنّما يعنينا أن ننبّه، في المقام الأوّل، على هذا المسار الانحداريّ الذي قطعهُ الغرب، منذ القرن التّاسع عشر حتى يوم النّاس هذا، والذي انتقل فيه انتقالتَه الدّراميّة من الإنسانويّة إلى العنصريّة!