هناك متورّط واحد بتحوّل مطاردة النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان غادة عون لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلى مهزلة وطنية: إنّه رئيس الجمهورية ميشال عون.

رئيس الجمهورية العاجز عن الإطاحة بحاكم مصرف لبنان، في مجلس الوزراء، يستعمل القاضية غادة عون التي حماها من رؤسائها الذين قرّروا في التشكيلات القضائية المجمّدة منذ سنوات إزاحتها عن منصبها لعلّة النقص في الجدارة، لتحقّق له مبتغاه.

يعتقد الرئيس عون أنّ توقيف رياض سلامة هو ممحاة لكلّ الخطايا التي اقترفها هو والمنظومة الحاكمة، بحق لبنان وشعبه، لما يمثّله حاكم مصرف لبنان من استمرارية لما يُسمّيه النهج المالي والإقتصادي المستمر منذ ثلاثين سنة.

ويتوهّم عون أنّه في حال جرى توقيف رياض سلامة، سوف تبقى حيثيات الصفقة التي عقدها للوصول الى رئاسة الجمهورية سرية، ولن يكتشف اللبنانيون والمعنيون بلبنان أنّه تعهّد، في مقابل وصوله الى القصر الجمهوري، بإبقاء رياض سلامة في منصبه، الأمر الذي جرت ترجمته، بتجديد مجلس الوزراء ولاية حاكم مصرف لبنان، في وقت لم يتعدَّ الدقيقة الواحدة.

والأخطر أنّ رئيس الجمهورية، وكلّما ظهر الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله أنّه هو الحاكم الفعلي للبنان، كما حصل في آخر إطلالاته التلفزيونية، لجأ الى بث حلقة جديدة من مسلسل مطاردة القاضية عون لحاكم مصرف لبنان، من أجل أن يتلهّى اللبنانيون عن التفكير بالموقع الحقيقي الذي يحتلّه نصرالله، وتالياً عن التأمّل بالجدوى الوطنية لوجود عون في رئاسة الجمهورية ووصول من يمكن أن يكون على مثاله الى القصر الجمهوري، إذا ارتضى هو، في اللحظة الحاسمة، أن يخرج منه.

من دون شك إنّ رياض سلامة لم يعد الحاكم المناسب لمصرف لبنان، ولا بدّ من استبدال شخصية يُمكنها أن تساهم في إنقاذ لبنان من الكارثة المالية-المصرفية-الاقتصادية التي أصابته به، لكن هذا لا يعني أبداً أنّ القاضية غادة عون، بكلّ الإشكاليات التي تُثيرها قضائيًا وقانونيًا ووطنيًا هي المرجعية الصالحة لتحقيق هذا الهدف، لأنّه يتم استعمالها، بدعم من المديرية العامة لأمن الدولة "العونية المرجعية"، في عملية الإلهاء الخطرة جدّاً، سياديًا ودستوريًا ووطنيًا وسياسيًا واقتصاديًا.

قد يكون من حق القاضية عون أن تبدي ثقة فائضة بنفسها وتستغل الثغرة السياسيّة للإنقضاض على رياض سلامة الذي يُواجهها بما يملك من قدرات قانونية ومالية وإعلامية وسياسية وطائفية، ولكن من حق كثير من اللبنانيين أن يشكّكوا بنزاهتها، كما هم شككوا بنزاهته، لأنّهم، بالمحصلة لا يطمحون إلى فعل انتقامي، وإلى تغليب طرف سياسي على طرف آخر في نزاع "التبرؤ من المسؤوليات"، بل يتطلّعون الى البدء باتّخاذ خطوات متناسقة ومتكاملة من شأنها أن تقود الى تحرير الودائع وتعويم الليرة اللبنانية ومضاعفة الإحتياط المالي وإعادة الكهرباء الى المنازل والمصانع وتوفير الدواء الشافي في الصيدليات المملوءة بالأدوية المزوّرة، وتعميم العدالة واستعادة السيادة.

إنّ الخسائر التي تراكمها مطاردات غادة عون الهزلية لرياض سلامة، أصبحت أكبر بكثير من فوائد توقيفه.
حتى تاريخه، بيّنت هذه المطاردات أنّ القضاء اللبناني، كسلطة مستقلة، معدوم الوجود، وأنّ السلطة التنفيذية هي سلطة التضارب والتنافس والعجز، وأنّ النظام اللبناني تخلّى عن وظيفته الوجودية وأصبح صانعاً للفوضى.

وهذه الخسائر هي التي يجب أن يخشاها أيّ رئيس للجمهورية يتمتّع، بالحدّ الأدنى من الحكمة، لأنّ شاغل هذا المنصب، في نظام كالنظام اللبناني، في حال احترم الدستور، قد لا يُسأل عن المعطيات الاقتصادية والمالية التي يُسجّلها الأداء الحكومي، لكنّه، من دون شك، يُسأل عن حال الدولة التي يترأّسها لأنّه هو "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه".

إنّ الرئيس ميشال عون تخلّى عن دوره الدستوري هذا، متنازلًا بذلك عن أبرز صلاحياته الوطنية للأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله، ليتحوّل الى مجرّد مطارد لرياض سلامة.

إنّ الإطاحة بسلامة ومساءلته ضرورتان وطنيتان، لكنّهما، لتعطيا النتائج التي يتطلّع إليها اللبنانيون، يفترض أن تكونا جزءاً من عملية متكاملة.

وفي هذه العملية، هناك أولويات تسبق التخلّص من رياض سلامة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: استعادة الدولة لقرارها السيادي الذي يسلبه "حزب الله"، إصلاح القضاء وتحصين استقلاليته، إعادة وصل لبنان بعمقه العربي الإستراتيجي، توفير الشروط التي من شأنها إعادة المستثمرين الى لبنان، إقامة سلطة تنفيذية قويّة، إحياء المحاسبة في المجلس النيابي، السهر على أن يكون اللبنانيون متساوين أمام القانون، بحيث لا تقتصر الشراسة القضائية-الأمنية على بعض الملفات، كملف محاولة توقيف رياض سلامة، في مقابل إهمال ملفات أخرى، كملفي انفجار مرفأ بيروت وتوقيف المحكوم عليهم في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

أن ينجح ميشال عون قبل انتهاء ولايته في توقيف رياض سلامه، بواسطة القاضية غادة عون، فهذا لن يُقدّم بل يُمكن أن يؤخّر، ولكن أن يتوقّف عون، في ما تبقى له من أيّام في القصر الجمهوري، عن المساهمة في تهديم آخر ما تبقى من الدولة، فهذا إن لم يقدّم فهو بالتأكيد لن يؤخّر!