حينما بدأ التعليم الجامعي في بلادنا قبل أكثر من 60 عاما، لم تكن هناك سوق للعمل بالمفهوم الحالي، فجهة التوظيف الوحيدة هي الحكومة، والأعمال المتوافرة هي: التدريس، والوظائف الإدارية البسيطة، التي يمكن أن يشغلها من يحمل شهادة الابتدائية أو المتوسطة، لذا لم يجد التعليم الجامعي إقبالا، وظلت التخصصات الجامعية نظرية في معظمها، كاللغة العربية والتاريخ والجغرافيا وكليات المجتمع، ثم جاءت شركة أرامكو كموظف مهم، تستقطب بعض الشباب وحملة الابتدائية أو أقل، وتعلمهم في مدارسها، ثم تبتعث المتفوقين منهم إلى أمريكا للدراسة الجامعية والعليا، وقد تولى بعضهم بعد العودة مراكز مهمة ربما وصلت إلى رئاسة الشركة. ودخلت في هذه الأثناء جامعة واحدة تهتم بالتخصصات العلمية، وهي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، التي أصبح لخريجيها ملتقى سنوي عند تخرجهم، حيث تسارع الجهات الحكومية والأهلية إلى استقطابهم.
طبعا الجامعات الأخرى، رغم قلة عددها في البداية، وفي مقدمتها جامعة الملك سعود اهتمت بتخصصات الطب والهندسة وبعض التخصصات التي تطلبها الوظائف الحكومية، ونجحت في ذلك، لكن سوق العمل الأهلي - أي القطاع الخاص - لم تستجب له الجامعات، ما فتح باب الاستقدام للوافدين الذين بعضهم يحمل شهادات صحيحة وخبرات جيدة في مجالات حيوية ومطلوبة، لكن بعضهم استغل حاجة السوق السعودية، فقدم شهادات وخبرات عليها أكثر من علامة استفهام.
وجاء الوقت الذي أصبح لزاما على الجامعات السعودية، وقد وصل عددها إلى أكثر من 40 جامعة حكومية وأهلية، أن تستجيب لسوق العمل وتراجع التخصصات في ضوء حاجة السوق المتطورة، تبعا لتطور الأعمال في دولة هي الوحيدة في المنطقة التي يشار إليها دائما بالتفوق بعد تجربتها الغنية في مجموعة العشرين، وبعد وضع قيادتها رؤية محددة الأهداف والبرامج الكفيلة بالوصول إليها.
وأصدر مجلس شؤون الجامعات قرارا بتحويل 40 كلية نظرية إلى كليات تطبيقية تقدم الدبلومات التي تلائم احتياجات سوق العمل مع زيادة أعداد القبول فيها، وشملت التخصصات الجديدة مجالات: الصحة، والتقنية، والهندسة، وبذلك وصل عدد الكليات التطبيقية إلى 75 كلية موزعة في المدن والمحافظات مع ترشيد القبول في البرامج الأكاديمية النظرية في تلك الكليات، وبالذات غير المتوافقة مع حاجات سوق العمل، ونص القرار على جانب مهم وهو ربط البرامج الجديدة بشهادات مهنية وتدريب ميداني مع أكثر من 70 جهة مختلفة محلية وعالمية، بحيث تؤهل الدبلومات الطلاب والطالبات إلى اكتساب المهارات المطلوبة للمنافسة في سوق العمل.
وأخيرا: التوجه الذي سبق أن أشار إليه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو تأهيل الشباب السعودي للمنافسة ليس في سوق العمل المحلية فقط، وإنما في سوق العمل العالمية، وسيتم ذلك بالتركيز على المهارات التي قال عنها وزير الموارد البشرية المهندس أحمد الراجحي، في تعليق على مقال سابق لي حول الموضوع: إنها الفيصل الحقيقي لارتباطها المباشر بجودة وكفاءة سوق العمل، إضافة إلى أن الأمان الوظيفي أصبح مقرونا بما يمتلكه الفرد من مهارات.
من هنا يبدأ التكامل مع المؤسسات التعليمية والتدريبية لتكون مخرجاتها مبنية على ما تحتاج إليه سوق العمل من مهارات علمية وفنية.