حسنًا فعل اللواء متقاعد صابر السويدان وزميله الرائد طلال العجمي حينما أصدرا عام 1999 كتاب «تاريخ الجيش الكويتي»، ففيه سرد مفصل عن تاريخ هذا الجيش الخليجي وتطوره وسير الوزراء الذين توالوا على قيادته وقيادة أركانه منذ عام 1949 وحتى 1999، حيث نجد أن المؤسس الأول للجيش الكويتي هو المشير الشيخ عبدالله المبارك الصباح (ت: 1991) الذي تولى مسؤولية إمرة الجيش وقت أن كان مجرد قوة للحدود وضبط الأمن الداخلي معا في نهاية الأربعينات، فعمل على تحديثها وزيادة عتاده وعديده، وابتعاث منسوبيه إلى الخارج للتدريب، وتزويده بالأسلحة الثقيلة، وتأسيس قواته الجوية، وتوثيق روابطه العسكرية مع بريطانيا كورقة ردع ضد الأطماع العراقية، خصوصًا منذ عام 1953 حينما تم فصل الأمن العام عن قوة الحدود وتعيّنه قائدًا للجيش والقوات المسلحة. وبعد استقالة سموه من جميع مناصبه عام 1961 ورحيله للإستقرار في الخارج حل مكانه، مع بداية عهد الإستقلال وإنشاء الوزارات، الشيخ محمد الأحمد الجابر الصباح (ت: 1975) الذي يعتبر أول من تولى حقيبة الدفاع من عام 1962 إلى عام 1964، وخلفه في منصبه الشيخ سعد العبدالله السالم (ت: 2007) من عام 1964 إلى عام 1978.

بعد ذلك تعاقب على حقيبة الدفاع، وبالتالي قيادة الجيش كل من الشيوخ: سالم صباح السالم الصباح (من 1978 إلى 1988)، نواف الأحمد الجابر الصباح (من 1988 إلى1991)، علي صباح السالم الصباح (من 1991 إلى 1994)، أحمد الحمود الجابر الصباح (من 1994 إلى 1996)، سالم صباح السالم الصباح (من 1996 إلى 2001)، جابر مبارك الحمد الصباح (من 2001 إلى 2011)، أحمد الحمود الجابر الصباح (من 2011 إلى 2012)، أحمد الخالد الصباح (من 2012 إلى 2013)، خالد الجراح الصباح (من 2013 إلى 2016)، محمد الخالد الحمد الصباح (2016 إلى 2017)، ناصر صباح الأحمد الصباح (من 2017 إلى 2019)، أحمد منصور الأحمد الصباح (من 2019 إلى 2020)، حمد جابر العلي الصباح (من 2020 إلى 2022)، طلال خالد الأحمد الصباح (من 2022)

أما على صعيد قيادة هيئة أركان الجيش الكويتي، فإن أول من شغل المنصب هو الشيخ مبارك العبدالله الجابر الصباح الذي سنتناول هنا سيرته المفصلة استنادًا إلى ما ورد في كتاب صدر في أكتوبر 2010م من تأليف ابنه الشيخ منصور مبارك العبدالله الجابر الصباح.

ولد الشيح مبارك العبدالله سنة 1934 بمدينة الكويت ودرس مرحلتي التعليم الابتدائية والمتوسطة في المدرسة المباركية والمدرسة الشرقية اللتين ارتبط فيهما بصداقة حميمة وزمالة قوية مع مؤرخ الكويت الشهير سيف مرزوق الشملان، عززتها هواياتهما المشتركة مثل رياضة الصيد وحب الشعر والولع بالقراءة واقتناء الكتب والمقتنيات الأثرية والصور النادرة، فنما محبًا للشعر الجاهلي وأشعار المتنبي وأحمد شوقي، وعاشقًا للقراءة والصيد والزراعة. وحينما بلغ سن الثالثة عشرة أرسله والده إلى لبنان في عام 1947 ليكمل تعليمه الثانوي في الكلية العالمية ببيروت، فكان من أوائل الطلبة الكويتيين الذين تلقوا تعليمهم ما قبل الجامعي في الخارج، فضلاً عن كونه من أوائل أبناء الأسرة الحاكمة ممن التحق بالتعليم النظامي. وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي قرر الانتقال إلى بريطانيا للدراسة في كلية ساند هيرست العسكرية عام 1951، مستلهمًا بذلك سيرة والده الفارس المحارب. وهناك تمكن بنجاح من إتمام كافة الدروس النظرية والتدريبات العملية، وتخطي برامج الصقل والاعداد العسكرية الشاقة.

وبعد تخرّجه من هذه الكلية الشهيرة عام 1954 عاد إلى الكويت وانضم إلى جيشها الوليد المتواضع، حيث أمر قائد الجيش ونائب الحاكم آنذاك الشيخ عبدالله المبارك الصباح رحمه الله بتعيينه نائبًا لقائد الجيش والقوات المسلحة. وظل في هذا المنصب إلى أن تمّ تعيينه بعد الاستقلال، وتحديدًا في مارس 1963، رئيسًا لهيئة الأركان.

خلال الفترة التي عمل فيها في الجيش الكويتي، لعب دورًا كبيرًا في تطويره ونقله إلى مصاف الجيوش المحترفة، فكانت له بصمات واضحة لا تخطئها العين لجهة الارتقاء بالقوات المسلحة ومنسوبيها وتحديث أنظمتها، ما جعله ينال ترقيات متتالية، خصوصًا مع اتصافه بصفات القائد المرن ذي النظرة المتسمة بالواقعية والشمولية. علاوة على ذلك كانت له تصورات وجيهة وتقديرات عسكرية صائبة ومعالجات دقيقة للأزمات التي مرت على الكويت منذ لحظة استقلالها عام 1961 وطوال السنوات التالية الحرجة التي شهدت فيها الأقطار العربية حروبا أوأزمات إقليمية. فقد كان مثلاً من أوائل من نادوا بضرورة تطبيق نظام الخدمة العسكرية الإلزامية في دول الخليج العربية، وهو ما تمّ تطبيقه بالفعل في الكويت عام 1987. ومما يذكر له أنه أدار بحنكة أزمة بلاده الأولى مع الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم سنة 1961، حيث عمل بتوجيهات من أميره الشيخ عبدالله السالم الصباح (ت: 1965) رحمه الله على تعزيز سلاح الجيش لصد العدوان مع تدريب المتطوعين على القتال. وكرر ذلك خلال المناوشات الحدودية مع العراق في عهد الرئيس أحمد حسن البكر سنة 1973 والمعروفة بـ «أزمة الصامتة». أما خلال حربي العرب مع إسرائيل عامي 1967 و1973 فقد أسهم في تلبية نداء الواجب القومي بإرسال ثلثي الجيش الكويتي إلى جبهتين للقتال مع بقية الجيوش العربية، على الرغم من قلة عديد جيشه وعتاده.

والده هو المرحوم الشيخ عبدالله الجابر الصباح، رائد العلم والثقافة ومؤسس المعارف الكويتية والتعليم النظامي، وأحد فرسان وشيوخ الكويت الكبار، ممن شغلوا مناصب رفيعة قبل استقلال الكويت وبعده، وصاحب السيرة العطرة في الدفاع عن الكويت منذ انضمامه عام 1915م إلى السرية العسكرية الكويتية بقيادة الشيخ سالم المبارك الصباح أمير البادية وقائد البيرق، ومشاركته في معارك حمض (1920) والجهراء (1921) والرقعي (1928)، علمًا بأن سموه تقلد العديد من المناصب الرسمية على مدى عقود حتى تاريخ وفاته في سبتمبر 1996. فقد تولى القيادة العامة للدفاع والأمن من عام 1928 إلى 1938، وأسس دائرة المحاكم وتولى رئاستها حتى عام 1962 وأسهم بحكم منصبه هذا في حل قضايا التجار والغاصة والنواخذة ونزاعات البادية، وهو من أسس بلدية الكويت وتولى رئاستها من عام 1932 إلى 1937، وأسس دائرة الأوقاف وقادها من 1948 إلى 1962. وفي عهد الاستقلال عـُين عضوٌ في المجلس التأسيسي الذي صاغ دستور الكويت سنة 1962 ثم تم منحه حقيبة التربية والتعليم في أول حكومة كويتية شكلتْ في عهد الاستقلال برئاسة الشيخ صباح السالم الصباح في 17 يناير 1962، فظل ممسكًا بها حتى سنة 1965 وهي السنة التي وقع فيها الاختيار عليه للإمساك بحقيبة التجارة والصناعة التي ظل وزيرًا لها حتى عام 1971. وفي عهد الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رحمه الله تمّ تعيينه مستشار للأمير، للاستفادة من خبرته وتجاربه الثرية، فبقي شاغلاً المنصب حتى تاريخ وفاته.

والدة الشيخ مبارك العبدالله هي الشيخة منيرة الأحمد الجابر الصباح إبنة حاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح (حكم من 1921 وحتى وفاته في عام 1950) من زوجته الشيخة حصة بن إبراهيم الغانم، وبالتالي فإن من بين أخواله الأميران الراحلان جابر الأحمد الجابر (ت: 2006) وصباح الأحمد الجابر (ت: 2020) رحمهما الله، والأمير الحالي الشيخ نواف الأحمد الجابر وولي عهده الشيخ مشعل الأحمد الجابر.

شقيقه الأكبر هو الشيخ جابر عبدالله الجابر محافظ الأحمدي (من 1961 إلى 1985) ومحافظ العاصمة (من 1985 إلى 1990) ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل الأسبق (من 1990 إلى 1991)، ومؤسس أول حديقة للحيوان في الكويت (حديقة سلوى) سنة 1954. وشقيقه الأوسط هو الشيخ صباح عبدالله الجابر الذي لم يشغل أي مناصب حكومية وتوفي عام 1972 في حادثة غامضة بالعاصمة المصرية.

زوجته هي ابنة خاله الشيخة أنيسة بنت عبدالله الأحمد الجابر الصباح (النجل الأكبر لحاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح)، والتي بقيت مخلصة له حتى مماتها في الخامس عشر من أكتوبر عام 2009، حيث حزنت عليه بعد رحيله فقاطعت السفر والحفلات والأفراح والمناسبات الاجتماعية ووهبت نفسها للخير والبذل والعطاء ومساعدة الناس دون تمييز، علمًا بأنها أنجبت للراحل ثلاثة أبناء ورثوا عن والدهم صفات الشجاعة والكرم والوفاء وحب الوطن وهم: الشيخ سالم (ولده البكر الذي ورث عنه حب العمل العسكري)، الشيخ منصور (عمل في تجارة العقارات)، الشيخ نواف (رجل أعمال محب للشعر والسفر)، إضافة إلى ثلاث بنات هن: الشيخة باسمة (صاحبة منتدى المبدعين الشباب)، الشيخة دينا (صاحبة أنشطة اجتماعية متنوعة)، الشيخة أفراح (شاعرة متألقة).

خرج الشيخ مبارك العبدالله من الخدمة العسكرية إلى الحياة المدنية في عام 1980، وهو في قمة عطائه بسبب ظروفه الصحية الخاصة وتراجع قوة بصره، فخلفه في قيادة هيئة الأركان الشيخ الفريق صالح محمد الخالد المحمد الصباح (ت: 2015)، الذي كان خير عون له منذ تعيينه كنائب لرئيس هيئة الأركان في عام 1965، وصاحب خبرة عسكرية وقتالية استمدها من قيادته للواء اليرموك الذي قاتل مع الجيش المصري في حرب حزيران 1967م. وفي السادس والعشرين من نوفمبر 1987 انتقل الشيخ مبارك العبدالله إلى جوار ربه عن عمر ناهز الثالثة والخمسين، مخلّفًا وراءه تاريخًا حافلاً من التألق والوفاء ودروسًا في التضحية والدفاع عن الوطن، ومكتبة ضخمة عامرة بأمهات الكتب في التاريخ والعسكرية والأدب والشعر والسير، انتقلت رعايتها إلى أبنائه.

كتبت عنه صحيفة القبس (1/‏12/‏2005) في ذكرى مرور ثمانية عشر عامًا على رحيله فقالت: «خلف موته المفاجئ حزنًا في نفوس الكثيرين، واورث في جوف المحبين ألمًا وحسرة. ها قد ترجل عن ظهر المعالي فارس دأب على التغني ببطولات الفوارس، وتوارى عن الانظار قَرْمٌ لطالما دارت الألسن تطريه في كل مجلس، صعد نجمه في العلياء بفضل من الله أولاً وقبل كل شيء، ثم بعمل دؤوب وإخلاص في النية، ومثابرة شاقة، ولكن سرعان ما أفل النجم جراء أسباب شاءها الله رب العالمين، ولم يكن للفقيد ولا لغيره، إزاء مشيئة الله حول ولا قوة. بيد أن الذي زاد من فداحة الخطب، وأورث في الفؤاد ألمًا فوق ألم، هو أن رحيله المفاجئ عن دنيانا جاء في زمن كانت الحاجة فيه ماسة الى أفعال الرجال وصنائع الكُماة».

وأضافت: «انظر كيف يرتقي أرباب النفوس الكبيرة ذرى المجد عن جدارة واستحقاق، ولكنهم لا يملكون في النهاية سوى الانزواء في مساحة ضيقة من الزمان والمكان، ويقنعون بما يرويه الأبناء عن مآثر الآباء والأجداد، تلك هي حال الفقيد الشيخ مبارك عبدالله الجابر الصباح في صعود نجمه وبلوغه مرتبة عالية يعجز الآخرون عن بلوغها، ولكنه لم يمكث طويلا في حلبة الصراع، إذ سرعان ما تحاشى مواطن الكدر والاستفزاز، وآثر الترجّل عن مقارعة العوادي والخطوب التي لم يكن يملك حيالها دفعًا ولا قوة، ولم يكن ينفعه في صدّها طبّ ولا طلسم أو إكسير ولا سحر. وكيف لا يجد الحزن طريقًا إلى نفوس العارفين بمناقبه وسجاياه، وقد طواه الردى عنهم بغتة إثر نوبة قلبية حادة داهمته أثناء تأديته رقصة (العرضة) التي اشتهر بها الابطال والفرسان في الخليج والجزيرة العربية؟ يخطئ من يظن أن أعمال البشر متماثلة في منفعتها للإنسان، او أن أهميتها متعادلة على مر الزمان، بل الثابت أن الناس ليسوا سواسية في أمور كثيرة، وأن الفروق الفردية واضحة بين البشر من حيث العطاء والجد، والاجتهاد وحب الوطن، وأعمال الخير وتقوى الله، وكفى بالله شاهدًا على اختلاف الناس في صفات كثيرة، وأعمال متفاوتة قوله سبحانه: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)».

من الصروح المقامة في الكويت تخليدًا لذكرى الفقيد مركز لغسيل الكلى يحمل اسمه ومُلحقًا بمستشفى مبارك الكبير في منطقة حولي الصحية، وقد تمّ افتتاحه في مارس عام 2015 على مساحة 17680 مترًا مربعًا وبتكلفة أربعة ملايين دينار كويتي من تبرعات ورثته الكرام.