لم يكن اجتياح التيار الصدري للبرلمان العراقي حدثاً مفاجئاً بذاته، فالأجواء ملتهبة بالأزمات المتلاحقة وسيناريوهات التصعيد واردة طوال الوقت.

ولا كان التصعيد من «الإطار التنسيقي» إلى حافة الصدام مفاجئاً أيضاً، فالمصالح والولاءات تتناقض.

في المشهد المأزوم بدا أن هناك شارعاً ضد آخر فيما يطلق عليه «البيت الشيعي» وأن الصدام معلق على حسابات دولية وإقليمية وداخلية بالغة التداخل والتعقيد.

لم تكن هناك مصلحة لأية قوة متداخلة في الأزمة أن تصل بالفعل ورد الفعل إلى انفجار لا يمكن السيطرة على تداعياته.

الأمريكيون ليسوا بوارد المجازفة فيما «مباحثات فيينا» جارية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران وإدارة جو بايدن مأزومة قبيل الانتخابات النصفية .

ولا الإيرانيون مستعدون لأية مجازفة تسحب من رصيد نفوذهم الإقليمي في لحظة تحولات جوهرية بمعادلات الإقليم فيما الأتراك يودون ألا يفلت الأمن في العراق بما يسمح بتمركزات أكبر وأخطر لحزب «العمال الكردستاني» الذي يعتبرونه تهديداً مباشراً لأمنهم القومي.

بحسابات المصالح قد يتوقف التصعيد عند الحافة، لكنه يظل احتمالاً وارداً بانفلات أعصاب، أو حماقة قوة.

وسط ذلك كله وجدت حكومة مصطفى الكاظمي نفسها متهمة من «الإطار التنسيقي» بالانحياز ضده، لكنها حاولت بقدر ما هو ممكن ألاّ تكون طرفاً مباشراً في الأزمة المتفاقمة، دعت إلى الحوار الداخلي، للوصول إلى تسوية.. ومؤكدة أن الجيش يقف على مسافة متساوية من الأطراف المتنازعة.

الأزمة تكاد تتلخص في رجلين، أولهما مقتدى الصدر ومواقفه تميل إلى نبض الشارع ودعواته إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي وتياره يلتزم بكل ما يصدر عنه من أقوال ومواقف.. وثانيهما، نوري المالكي صاحب الكلمة النافذة في «حزب الدعوة» وتأثيره واصل إلى صلب قرار «الإطار التنسيقي».

كان اختيار «الإطار» لمحمد شياع السوداني مرشحاً لرئاسة الحكومة المزمعة نقطة تفجير الأزمة، الرجل بذاته لم يكن مشكلة، فهو على درجة من الكفاءة مشهود بها، لكنه ينظر إليه ك«ظل» للمالكي، وهذا ما كان مستحيلاً أن يوافق عليه الصدر.

قبل أن تنفجر الأزمة الأخيرة سربت أقوال مسجلة للمالكي نال فيها من الصدر، متجاوزاً كل الخطوط الحمراء في لغة الخطاب.

أطلت «الكراهية الشخصية» على المشهد المأزوم، وكان رد الفعل اقتحاماً للبرلمان لمنع تمرير رجل المالكي.

بدا لافتاً إلى أن يطلب الصدر أن يعتذر قادة «الإطار التنسيقي» عما بدر من المالكي، قبل الحوار .

القوتان الشيعيتان، «التيار» و«الإطار» تناهض كل منهما الأخرى.

التيار ينتقد الفساد المستشري في بنية الطبقة السياسية، التي تولت مقادير الأمور بعد احتلال بغداد (2003) ويحمل المالكي على وجه الخصوص مسؤولية تفشي الفساد في المؤسسة العسكرية عندما كان رئيساً للحكومة إلى حد أنه لم تكن هناك أية مقاومة جدية لزحف «داعش» إلى العاصمة بغداد، و«الإطار» مصلحته في بقاء الأمر الواقع.

التلاعب بالمعاني والعبارات يسيطر على الأداء السياسي للمالكي رئيس ائتلاف «دولة القانون» فهو يطلب السلطة، ويرشح أحد رجاله لتولي رئاسة الحكومة، على الرغم من أنه يعترف علناً أمام كاميرات التلفزيون بأن الطبقة السياسية، وهو منها، فاشلة.

قال بالحرف: «لا يصح أن يكون للطبقة السياسية الحالية التي فشلت فشلاً ذريعاً في العراق أي مستقبل في رسم خارطة مستقبل العملية السياسية».

هناك اعترافات مماثلة لقيادات أخرى بالضلوع في الفساد.. وأن الكل فاسدون دون خشية حساب.

في تلاعب آخر بالمعاني والعبارات اعتبر «الإطار التنسيقي» التظاهرات خروجاً عن الشرعية وانتقاصاً من هيبة الدولة ومؤسساتها.

بقرار منفرد من زعيمه استقال نواب «التيار» وأفسح المجال أمام «الإطار التنسيقي»، لتشكيل حكومة جديدة بالمواصفات التي يطلبها.

كان ذلك مشهداً غير مفهوم في أزمة سياسية معقدة.

هكذا تعطل انتخاب رئيسين جديدين للجمهورية والحكومة ودخل البلد كله في شلل منذر بإنتاج أزمات أخرى أفدح.

الأزمات كلها تعود إلى مصدر رئيسي واحد هو ما جرى في العراق وبالعراق من تدمير منهجي إثر احتلاله.

جرى العبث بتركيبته السكانية المعقدة لإثارة فتن وأحقاد طلباً لتقسيمه.

تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب في جنباته.

كان احتلال بغداد نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم.

بعد احتلال العراق مباشرة كتب «توماس فريدمان» على صفحات ال«نيويورك تايمز» أن السبب الحقيقي لضرب العراق هو أنه كان لابد من ضرب أحدهم في العالم العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001).

لا أسلحة دمار شامل، ولا إيواء منظمات إرهابية، ولا تحرير ولا ديمقراطية، فكل هذه كانت ذرائع لضرب العراق.

إننا أمام محنة ممتدة، دفع العراقيون ثمنها من حياتهم ومستقبلهم، ودفع العرب معهم أثماناً أخرى من أمنهم القومي ومن قدرتهم على التماسك.