يعتبر الطاهر الحداد معلمًا وطنيًا، تكرم ذكراه، وتصدر الطوابع البريدية بصورته واسمه، ويدرس بعض نصوصه الأساسية في المدارس والجامعات، ويقال دائمًا إن المكاسب التي حققتها المرأة التونسية منذ الاستقلال، وبدفع أساس من الرئيس الراحل الحبيب برقيبة، ما كان يمكن ان تتحقق لولا كتابات الطاهر الحداد وجهاده في سبيل رفعة شأن هذه المرأة في المجتمع. ومن المعروف أن بورقيبة في حركية تعاطيه مع قضية المرأة في تونس، إنما قرأ الطاهر الحداد جيدًا، وطبق الكثير من نظرياته. هذا ما أشار اليه الكاتب المستنير ابراهيم العريس في موقع «الجمل». وإذا عدنا، كما يقول العريس، إلى بداية ثلاثينات القرن العشرين، يوم كان الحداد فاعلاً في الحياة الثقافية التونسية، تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، كان«ملعونا» من مجايليه، وليس فقط من الأوساط المحافظة المتشددة التي كانت تجد في آرائه «خطرًا على المجتمع» أي بالتحديد «على مصالحها في المجتمع». ولم يتردد بعض ناقدي الحداد، في أوساط أقل تزمتًا، في اعتباره «فردًا من جماعة سلامة موسى وطه حسين وأضرابهما من رؤسائهما الملحدين المستنيرين بدعوى التجديد والإصلاح»، وفق تعبير الكاتب عمر البدري المدني الذي أصدر عام 1932 كتابًا كاملاً للرد على طروحات الطاهر الحداد عنوانه «سيف الحق على من لايرى الحق». ولم يكن هذا الكتاب سوى حلقة من سلسلة كتب ومقالات تداعت للرد على الحداد والتحريض ضده، و«تنفيذ» ما كان جاء في كتاب له، يعتبر اليوم أساسيًا وهو «امرأتنا في الشريعة والمجتمع». والحال أن هذا الكتاب الذي صدر في تونس للمرة الأولى عام 1930، لايزال - في بعض أجزئه على الأقل- يثير سجالات، تدعو حتى بعض «متنوري» اليوم إلى انتقاده، وإن وقفوا إلى جانب أفكار رئيسة فيه واعتبروه في شكل إجمالي، عملاً اجتماعيًا تحريريًا يحاول أن يطور في بعض المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالمرأة. قد يحق للمرء أن يتساءل أين صار منتقدو الطاهر الحداد، وذلك في ضوء ما قامت به السلطة السياسية، فور حصول تونس على استقلالها، من تطبيق العدد الأكبر من أرائه، وإدخالها في القوانين التونسية، وإن كانت تطلع، وفي تونس نفسها، بين الحين والأخر أصوات تدعو إلى التراجع عن كل ذلك أو عن بعضها.

يذكر الكاتب والباحث التونسي المتخصص في اللغة العربية والحضارة العربية سلمان العبدلي،أن الحداد في كتابه «الجمود والتجديد في قوتهما» كان جادًا في طرح مواقفه من نصوص التراث التي جعلها الكثيرون متكًا لهم يسيطرون من خلاله على حياة المسلم في كل جزئياتها، فلم يتركوا مجالاً من مجالات الحياة إلا لهم فيه رأي. فضلاً عن كونه امتلك الجرأة في إبداء الرأي وعدم التردد في كشف المغطى وإثارة المسكوت عنه والانفكاك من أسر الأطر المغلقة التي تتحمل وزر التخلف بما أشاعته من اعتقادات عطلت العقل عن التفكير والنظر وغلبت الأبدي عن الفعل والحركة. لم يترك معاصرو الحداد وقتًا إلا وحاربوه فيه معتبرين أن مشروعه الإصلاحي زندقة يراد بها محاربة الدين وتعويضه بالمدنية الغربية. وعلى قدر وضوح فكر الطاهر الحداد وقع التعتيم على اهتماماته الفكرية، فلم تتعرض له الدراسات المتعلقة بالتحديد في البلدان العربية عمومًا - إن سمح التعميم - والبلاد التونسية على وجه الخصوص، غير أن التجاهل الذي لاقاه الحداد والمضايقات التي تعرض لها بسبب مواقفه انحصرا في السنوات الأخيرة من عمره، ولاسيما بعد صدور مصنفه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الذي اثار غضب رجال الدين في تونس. بالإضافة إلى هذا المنجز الثقافي، برزت على الثقافية والاكاديمية التونسية نسخة لمخطوط كانت قد تركها الحداد قبل وفاته، وهو كتاب صغير الحجم، وقد وسم بـ«الجمود والتجديد في قوتهما» وفيه قد جمع الحداد بين النقد والتفكه على ما ٱل اليه الفكر الديني من جمود في تللك الفترة (ثلاثينيات القرن الماضي) وفي ذلك يقول الأكأديمي التونسي عبدالمجيد الشرفي: «وسيكتشف القارئ» للجمود والتجديد في قوتهما «أسلوبًا جديدًا للحداد لا يخلو من السخرية. ولئن بدا لأول وهلة في استعراض المؤلف لحجج الجامدين أنها حجج قوية دامغة فإن تقديم حجج المجددين إثرها لا يترك مجالاً للشك في أن ما بدا في أول الأمر قويًا أو هي في الحقيقة من بيت العنكبوت».
إن الحقبة التاريخية التي عاشها الحداد والبعض من أصدقائه الذين يشاركونه التوجهات والخيارات الفكرية، هي حقبة تميزت بتكبيل الفكر وتعطيل الاجتهاد. فكل من خرج عن فكر الجماعة صنف متمردًا وعاصيًا، وكل من أخضع المسلمات للتقصي والبحث والتفكيك صار هذا الإخضاع كفرًا، وهو أمر لا تقبله المؤسسة الدينية في تونس التي رسخت في مختلف شرائح المجتمع -بما في ذلك الطبقة السياسية- فكرة أنها تمثل الحقيقة المطلقة. وتبعًا لذلك صار في تونس صراع بين مستويين: مستوى يمثله الحداد الإنسان الخاضع في تفكيرهم لمؤثرات البيئة والتطورات الخارجية الأوروبية، ومستوى ثانٍ تمثله المؤسسة الدينية التى لا تروم التحرر الفكري. ونتيجة لتمسك الحداد بمواقفه تجاه قضايا التشريع والمرأة في تونس إيمانا منه بان البلاد التونسية لايمكن أن تتحرر إطلاقًا وتلتحق بركب الأمم المتقدمة دون تحرير المرأة، وإذا أضفنا إلى ذلك مواقفه الواضحة والصريحة من رجال الدين في تونس ومرجعيتهم المفترضة في التعبد برأي الفقهاء وتوسيعهم لمفهوم الحكم رغبة منهم في السيطرة على حياة المسلم في كل تفاصيلها. نتيجة لكل هذا كفرته المؤسسة الدينية واتهمته بالإلحاد والزندقة وجردته من شهادته العلمية وتم طرده طردًا تعسفيا من الجامعة آنذاك.
كانت حركة الإصلاح التي قام بها الحداد ترمي إلى تقويم الفساد الذي طرأ على الأخلاق في المجتمع الإسلامي عمومًا، وفي المجتمع التونسي خصوصًا. وإذا كانت الأسرة عماد المجتمع فقد اتجه مفكرنا إلى إصلاح نظام الأسرة فكانت مشكلة تعدد الزوجات - وهي مشكلة تمس بالأساس جانب المرأة- من المشكلات التي حاول حلها حلا يلائم الإصلاح المنشود في مطابقته لمقاصد الشريعة الإسلامية. تعد مسألة المساواة في الميراث من المسائل الشائكة في الفكر الإسلامي الحديث، ووسمت بالشائكة لأن مجرد الاقتراب منها خاصة في فترة التراجع التي تعيشها المنطقة العربية عن مشروع العدل الاجتماعي يثير كثيرًا من الزوابع ويعرض المجتهد لسيل من الاتهامات والتجريح والتكفير. وهذا ما حدث مع الحداد جراء مواقفه من الهيمنة الذكورية المتفشية في المجتمع التونسي، وفهمه الخاص لمبدأ المساواة بين الجنسين في الميراث. أن الطاهر الحداد الذي رحل عن دنيانا عام 1935، عن عمر لا يزيد على 36 عامًا، هو إلى جانب قاسم أمين، من أعلام النهضويين العرب الذين نظروا إلى المجتمع بعين الواقع، وحاولوا إصلاحه انطلاقًا من الممكن، فنجحوا، ولو متأخرين كثيرًا في شكل جزئي، والطاهر الحداد الذي ولد في تونس العاصمة عام 1899، من أب أهله من قابس، تلقى منذ صغره تعليمًا دينيًا تقليديًا ولاسيما في «الجمعية الخلدونية» وجامع الزيتونة، والتحق بين 1920و1921 بمدرسة الحقوق، من دون ان يكمل بسبب انصرافه إلى العمل النقابي والسياسي في أوساط الحزب الحر الدستوري التونسي. كما أنه لاحقًا عجز عن استئناف تلك الدراسة، وهو عاش ٱخر سنوات حياته حزينًا معزولاً، من دون أن يعرف أن استقلال تونس وتحررها، سيضعانه بعد رحيله في طليعة المفكرين النهضويين في تونس والعالم العربي.