مثلما يَنشغِلُ العالم بالطريقة التي ستنتهي بها الحربُ الأوكرانية، يمكن أن نتوقَّعَ قلقاً مماثلاً ينتاب فلاديمير بوتين. يعرف الرجل أثمانَ الحرب. كيف يمكن أن تنتهي بقدرٍ أقل من الخسائر لبلده، وبعدد أقل من الضحايا والجرحى في جيشه، وبوعد بالانتصار في آخر الطريق التي اختار لروسيا أن تسلكَها برغم كل التحذيرات والصعوبات؟
ليس بوتين غريباً عن ذيول الانكسارات والهزائم التي واجهتها بلاده. ليس غريباً أيضاً عن تكاليف هذه الهزائم. هو الذي وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأكبر كارثة جيوسياسية حصلت في هذا القرن، وجاء إلى الكرملين بعهد ووعد بتصحيح هذه الكارثة، وإعادة المجد إلى روسيا الجريحة.
يتذكَّر بوتين ما حصل في عام 1989، وتلوح أمامه صورة رجل كبير من الذين سبقوه على عرش الكرملين، اسمه ليونيد بريجنيف. كان بوتين في بدايات تدرّجه في المراتب في «الكا جي بي»، ولم يكن له رأي يعتدّ به في القرار الذي اتُّخذ بغزو أفغانستان قبل ذلك بعشر سنوات، لخلع قيادة اعتبرها الكرملين آنذاك منشقة عنه (حفيظ الله أمين) واستبدالها برجل مخلص في الولاء، هو بابراك كارمال.
تبيَّن فيما بعد أنَّ ذلك القرار كان بين أسوأ القرارات التي اتخذتها قيادة الاتحاد السوفياتي. أسوأ من غزو هنغاريا ومن «ربيع براغ»، وحتى أسوأ من لعب خروتشوف على حافة المواجهة النووية في «خليج الخنازير». كان أسوأ منها جميعاً؛ لأنَّه كلف الاتحاد السوفياتي وجودَه ذاتَه.
يتذكَّر بوتين كيف راهن بريجنيف على ضعف جيمي كارتر، وعلى عجزه عن حشد تحالف يقف في وجه الغزو السوفياتي. وكان الرهان خاطئاً إلى حد الإذلال. هو أيضاً ارتكب الرهان ذاته عندما اعتقد أنَّ الرجل المتقدم في السن الذي يقيم في المكتب البيضاوي ليس من طينة رجال المواجهات. سمع بعرض جو بايدن إرسالَ طائرة لإخلاء زيلينسكي من مقره في كييف. وشعر أنَّ فرصة الانقضاض على أوكرانيا أصبحت سانحة. بلد لا يحظى بدعم أحدٍ من جيرانه أو حلفائه، ولا يستحق أن يكونَ موجوداً تحكمه حفنة من «النازيين».
تغري ذكرى غزو أفغانستان بالمقارنات. عشرة أعوام قضاها «الجيش الأحمر» في أودية أفغانستان وهضابها. نجح فيها في دفع كل الولاءات المتناقضة داخل أفغانستان وخارجها إلى الوقوف في وجهه، وإلى دعم كل من يرغب في القتال ضده.
وانتهى الأمر بأكبر هزيمة عرفها الاتحاد السوفياتي. لم يكن حجم الهزيمة مجرد الانسحاب من أفغانستان؛ بل نزع من الاتحاد السوفياتي فرصة المفاخرة بإغراق جيش هتلر في الصقيع الروسي. توصل ميخائيل غورباتشوف إلى قناعة بأنَّ وجود الجيش السوفياتي في أفغانستان لا يستحق دفع كل الأثمان الباهظة، في السياسة والاقتصاد، فضلاً على الدمار الذي لحق بعلاقات موسكو مع معظم دول العالم، وفوق ذلك بسمعة جيشها الغارق في تلك الوديان، وبعدد الضحايا الذي تجاوز 15 ألف قتيل.
15 ألف قتيل من الجيش السوفياتي في 10 سنوات. رقم يكاد عدد ضحايا الجيش الروسي في غزوه الحالي لأوكرانيا أن يتجاوزَه في 6 أشهر.
يعرف بوتين ماذا يعنيه ذلك. ويدرك أيضاً أنَّ صمتَ الشارع الروسي يمكن ألا يطول، كما قبول هذا الشارع بديباجة «العملية الخاصة» التي اختارها إعلام الكرملين لوصف ذلك الغزو. ومثلما لم تنفع القبضة الحديدية للجيش الأحمر في منع ارتدادات غزو أفغانستان على الداخل، كذلك من الصعب أن تمنع القيود المفروضة اليوم على رجال السياسة والإعلام من أن تتسرَّب أصوات الاحتجاجات، ومنها من داخل الجيش نفسه، كما أخذت تشير شهادات عدد من الجنود من الذين شاركوا في المراحل الأولى للغزو، وجاءت رواياتهم تتحدَّث عن الأوضاع المزرية التي تُركوا فيها، محرومين حتى من حاجات الطعام الأساسية، ما كان يدفعهم إلى اقتحام بيوت الأوكرانيين في المدن والبلدات التي دخلوها، ليستولوا على ما يتوفر من مأكولات وحاجات منزلية.
لم يفقد فلاديمير بوتين الأمل. يراهن على المشاعر الوطنية التي نجح في تأجيجها، كما على تفوق جيشه، وعلى الأعداد الجديدة من الجنود الذين سيدفعهم إلى ساحة الحرب. يراهن أيضاً على الأثر السلبي الذي تتركه أزمة الطاقة التي نتجت عن إقفال إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا على مدى تضامن الأوروبيين مع القضية الأوكرانية. يرتاح بوتين وهو يتابع أخبار الشتاء القاسي الذي سيضرب سكان القارة القديمة، بعد الإعلان في أكثر من دولة عن الارتفاعات الخيالية التي ستلهب أسعار الطاقة في الشهور المقبلة. في حسابات الرئيس الروسي أنَّ جيرانه الأوروبيين يجب أن يدفعوا ثمنَ تدخلِهم في حرب، كان يريدُها حربَه، وكان يريد انتصاراً سريعاً فيها، يقضي على «النازيين»، ويستعيد المتمردين من جماعة زيلينسكي ورفاقه، إلى «بيت الطاعة».
لكن... ماذا لو لم يربح بوتين الرهان؟ ماذا لو خرج من تورط روسيا في الركام الأوكراني، رئيس بقامة ميخائيل غورباتشوف الذي أحدث الانقلاب الكبير في أروقة الكرملين؟ يدرك بوتين أن لا شيء يمنع أن يكرّرَ التاريخُ نفسَه إذا تفاقم الغرق في أزمة أوكرانيا.
التعليقات