كلما وصلت العملية السياسية في ليبيا إلى الطريق المسدود، تأزمت ميدانياً واندلعت اشتباكات بين ميليشيات الأمر الواقع التي تتبع هذه الجهة أو تلك. واشتباكات طرابلس في الأيام الأخيرة ليست إلا تعبيراً عن الفوضى السياسية والأمنية التي انزلقت إليها ليبيا يوم قرر حلف شمال الأطلسي دعم الانتفاضة ضد نظام معمر القذافي عام 2011.

المسألة أبعد من إطلاق ميليشيات تساند رئيس حكومة الوحدة الوطنية رجل الأعمال عبدالحميد الدبيبة، النار على رتل من ميليشيات تساند وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا الذي يتولى رئاسة حكومة أخرى معترف بها من مجلس النواب الذي يتخذ طبرق شرق البلاد مقراً له. إن المسألة تتعلق بصراع داخلي طاحن على السلطة، معطوفاً على اشتباك إقليمي ودولي حول مستقبل ليبيا.

حدة هذا الصراع وطبيعته الداخلية والدولية، كانتا كفيلتين بإفشال كل مبادرات الأمم المتحدة والمبادرات الإقليمية لتقريب وجهات النظر بين الزعماء الليبيين. وبينما كانت المستشارة الأممية للشؤون الليبية ستيفاني وليامز، قد حققت في العامين الماضيين بعض التقدم على صعيد مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في جنيف أوائل 2021، وانتهى بانتخاب الدبيبة رئيساً لحكومة وحدة وطنية ومجلساً رئاسياً على طريق توحيد مؤسسات الحكم، فإن وليامز نفسها أعلنت في نهاية تموز (يوليو) مع انتهاء ولايتها، أنها ستترك منصبها. وأتى قرار وليامز على أثر إخفاق جهودها في الأشهر الأخيرة في التوصل إلى خريطة طريق توحد الحكومتين المتنافستين، وتحدد موعداً جديداً لانتخابات رئاسية ونيابية. ولخصت وليامز التي أعيتها الأزمة الليبية، الوضع السائد بأنه أشبه بـ"لعبة الكراسي الموسيقية". وقبل وليامز، وصل المبعوث الأممي الخاص يان كوبيتش إلى الخلاصة نفسها وكذلك سلفه غسان سلامة.

لنلخص المشهد الحالي: هناك الدبيبة، الذي أخفقت حكومته التي كان يفترض بها التحضير لانتخابات رئاسية في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021، وفق ما نصت "خريطة الطريق" المنبثقة من حوار جنيف، في إجراء الانتخابات في موعدها، الأمر الذي حمل منافسيه على دعوته إلى الاستقالة. وهي دعوة رفضها الدبيبة، فما كان من مجلس النواب الذي يترأسه عقيلة صالح، إلا أن سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، ليكلف بعد ذلك فتحي باشاغا تأليف حكومة مهمتها الإعداد للانتخابات. وبذلك عادت ليبيا لتدار من حكومتين متنافستين. وأكثر من مرة حاول باشاغا الدخول إلى طرابلس لتولي مهامه من العاصمة، لكن كان ينتهي الأمر باشتباكات مع الميليشيات الداعمة للدبيبة، ويقع المدنيون ضحايا الاقتتال بين الرجلين.

وليبيا مقبلة على تعقيدات أكبر مع الخلاف الناشب بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة والدول الغربية من الجهة الأخرى في مجلس الأمن، حول ضرورة تعيين مبعوث خاص جديد إلى ليبيا. ذلك أن موسكو وبكين تطالبان بتعيين خلف لكوبيتش، بينما كانت واشنطن تقترح تعيين وليامز في هذا المنصب، الأمر الذي جوبه برفض روسي وصيني، فما كان من الأمين العام للأمم المتحدة إلا أن وجد مخرجاً لهذا المأزق بتعيين وليامز مستشارة له للشؤون الليبية. نشبت هذه الأزمة قبل عشرة أشهر، لكن من المرجح أن تتجدد الآن مع رفض وليامز البقاء في منصبها.

بين الأبعاد المحلية والخارجية للأزمة، يجد الليبيون العاديون أنفسهم متروكين بلا خدمات أساسية مثل الكهرباء والماء وانتظام عمل الإدارات التي يفترض بها إدارة الشؤون الحياتية للمواطنين. وهذا ما قاد إلى الاحتجاجات الشعبية في أوائل تموز (يوليو) الماضي، والتي كانت بمثابة جرس إنذار للطبقة السياسية في غرب ليبيا وشرقها على حد سواء بأن الكيل قد طفح، وبأن الناس فقدت ثقتها بالجميع نتيجة المسار الانحداري الذي وضعت عليه ليبيا منذ أكثر من عقد.