لم يحدث منذ الحرب الأهلية (1861-1865) أن حذّر رئيس أميركي مواطنيه من أن البلاد تواجه خطرا وجوديا تمثله شريحة أخرى من المواطنين وليس عدوا خارجيا، كما فعل الرئيس بايدن مساء الخميس الماضي، في خطاب ألقاه في مدينة فيلادلفيا التاريخية بولاية بنسلفانيا، التي تمت فيها صياغة الدستور الأميركي والتوقيع عليه من قبل مؤسسي الجمهورية الأميركية. الرئيس بايدن كان واضحا وصريحا حول هوية الخطر ومصدره حين قال "دونالد ترامب والجمهوريون المتطرفون يمثلون ذلك النوع من التطرف الذي يهدد أساس جمهوريتنا". (استخدم بايدن أوائل الحروف في شعار ترامب: إجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى MAGA في إشارته إلى المتطرفين).

الاتهام خطير ولافت لأكثر من سبب أبرزها عمق الهوة الواسعة التي تفصل بين القاعدة المتطرفة التي لا تزال تتمسك بالرئيس السابق ترامب وترفض شرعية انتخاب بايدن، وبين الديمقراطيين وغيرهم من الأميركيين الذين يرون في ترامب وقاعدته خطرا مباشرا على الديمقراطية الأميركية. ما يجعل الاتهام لافت أيضا هو أنه صادر عن رئيس كان معروفا باعتداله السياسي خلال خدمته الطويلة كعضو في مجلس الشيوخ، وكمرشح قاد حملته الانتخابية باسم محاولة إعادة بناء الوحدة الوطنية، وإعادة الروح إلى التسويات السياسية التقليدية بين الحزبين.

صحيح أن الجمهوريين غالوا جدا في انتقاداتهم لبايدن واتهمه بعضهم بأن خطابه كان بمثابة "إعلان حرب" على الجمهوريين، بينما طالبه آخرون بالاعتذار عن "إهانة" الناخبين الجمهوريين، إلا أن الحقيقة أن بايدن كان يشن حربا على تلك القيادات في الحزب الجمهوري في الكونغرس وخارجه من الذين يواصلون دعم ترامب أو تأييد إعادة ترشيحه لمنصب الرئاسة، أو الذين يوافقون على أكاذيب وتضليل ترامب القائلة بأن انتخاب بايدن لم يكن شرعيا. بايدن كان واضحا حين فرّق بين ترامب وقاعدته المتطرفة، وبين الجمهوريين التقليديين حين قال "ليس كل جمهوري – وليست أكثرية الجمهوريين – هم من المتطرفين، ليس كل جمهوري يؤمن بهذه الإيديولوجية المتطرفة" مشيرا إلى أنه يعلم ذلك من تجربته ومن تعاونه في السابق مع الجمهوريين التقليديين في الكونغرس.

خلال سنته الأولى في البيت الأبيض كان الرئيس بايدن يتجاهل ذكر سلفه بالاسم، وكان يشير إليه بكلمة "سلفي" أو "الشخص السابق الآخر"، كما كان يتفادى مهاجمة ترامب بشكل مباشر، لكي لا يعزز من قيمته ووزنه، الأمر الذي عرّضه للانتقادات من الجناح التقدمي في حزبه. ولكن مع كشف التحقيقات القضائية والنيابية المختلفة بانتهاكات الرئيس السابق عن حقائق ومعلومات مقلقة للغاية من بينها إخفاء ترامب لعشرات الصناديق من الوثائق السرية في مقر إقامته، ومع بقائه الشخصية المهيمنة على الحزب الجمهوري ومختلف المؤشرات بانه يعتزم ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة، رأى بايدن أن الوقت قد حان لمصارحة الأميركيين بطبيعة الخطر الذي تواجهه البلاد. وقبل خطابه في فيلادلفيا بأيام، وصف بايدن فلسفة ترامب ومؤيديه المتطرفين بأنها "شبه فاشية"، الأمر الذي عرّضه إلى انتقادات شرسة من قيادات جمهورية ادعت أنه يتهم جميع الجمهوريين بأنهم متعاطفون مع الفاشية.

المفارقة في ردود الفعل الجمهورية على صفعة الفاشية التي وجهها إليهم بايدن، هي أنهم تناسوا كليا التهم الشنيعة التي كان يوجهها الرئيس ترامب لجماعات أميركية لمجرد أنه لا يوافق على مواقفها السياسية. وعلى سبيل المثال وصف ترامب أولئك الأميركيين الذين يسعون إلى التخلص من رموز الكونفدرالية العنصرية (مثل تماثيل قادة الحركة الانفصالية التي فجرت الحرب الأهلية) بأنهم "رعاع غاضبون" يسعون إلى فرض "فاشية يسارية متطرفة" أو يقودون "ثورة ثقافية يسارية". وخلال إحدى المناسبات في البيت الأبيض، تبجح ترامب بالقول بأنه ألحق الهزيمة "باليسار المتطرف: الماركسيون، الفوضويون والمحرضون والناهبون".

ولإعطاء اتهاماته لترامب بعدا رسميا وخطيرا، قرر بايدن أن يعلنها في خطاب موجه للأمة في المساء، ومن أمام قاعة الاستقلال في فيلادلفيا، وهو يقف أمام أعلام أميركية وحرس من أعضاء مشاة البحرية (المارينز). وجاء الخطاب قبل ثلاثة أيام من عيد العمل، وهو الموعد التقليدي لبدء الشوط الأخير في الحملة التي تسبق الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل. قرار بايدن مواجهة ترامب ومتطرفيه في هذا الوقت يعني من جملة ما يعنيه، محاولة عزله عن بعض قيادات الحزب الجمهوري في الكونغرس، وعن بعض المرشحين الجمهوريين الذين لا يريدون أن يتحول الرئيس ترامب إلى حجر ثقيل معلق في أعناقهم. المرشحون الجمهوريون يريدون تركيز حملاتهم على القضايا التي وضعت الرئيس بايدن والديمقراطيين في موقع دفاعي مثل معدلات التضخم العالية، وكذلك معدلات الجريمة المقلقة واستمرار تدفق اللاجئين والمهاجرين غير الموثقين عبر الحدود الجنوبية للبلاد، وآخر ما يريدونه هو أن يهيمن ترامب على السجال الانتخابي ويجعل نفسه ونتائج انتخابات 2020 القضية المحورية في السجال الانتخابي.

ردود الفعل الجمهورية الأولى على خطاب بايدن كانت مزيجا من الاستهجان المبالغ به، والتصرف كضحايا بريئة واتهام بايدن بأنه يؤجج الاستقطابات السياسية لتحقيق مكاسب انتخابية، الأمر الذي دفع ببايدن "لتوضيح" انتقاداته لقاعدة ترامب المتطرفة مثل قوله انه لا يعتبر أي مؤيد لترامب على أنه خطر على البلاد، وإن كرر القول إنه يوجه انتقاداته لكل مواطن ينادي بالعنف السياسي ويرفض الانتقال السلمي للسلطة ولا يعترف بشرعية الانتخابات.

وكعادته، سارع ترامب بتهوره وتطرفه إلى تبرير جوهر خطاب الرئيس بايدن حين لحق به إلى ولاية بنسلفانيا ليهاجمه في أول خطاب له منذ تفتيش مقره في مارا لاغو بولاية فلوريدا، وكذلك الأجهزة الأمنية الأميركية ناعتا الرئيس بايدن بأنه "عدو الدولة" الأميركية، وواصفا مكتب التحقيقات الفدرالي (الأف بي آي) ووزارة العدل "بالوحوش الشريرة". وكعادته كرر ترامب القول إن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات منه. وكان ترامب قد قال إنه في حال فوزه في الانتخابات في 2024 فإنه سيصدر عفوا عن المتطرفين والعنصريين الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في يناير 2021 لإلغاء نتائج الانتخابات.

ومنذ تفتيش مقره واستعادة الوثائق السرية وترامب يواصل تحريضه ضد وزارة العدل وأجهزتها والتحذير من حدوث أعمال عنف إذا لم تتوقف الحملة ضده. ولم يحدث أن هاجم رئيس أميركي حالي او سابق أجهزة رسمية مثل وزارة العدل أو مكتب التحقيقات الفدرالي بمثل هذه الشراسة. بعض القيادات الجمهورية سارعت إلى إبعاد نفسها عن هذا التصعيد الخطير لترامب والذي أظهر أن اتهامات الرئيس بايدن له ولمؤيديه المتطرفين كانت مبررة وفي مكانها.

هذا هو المشهد الانتخابي قبل 65 يوما من الانتخابات النصفية. خطابا بايدن وترامب يؤكدان عمق الانقسام السياسي في البلاد وخطره على مستقبلها. هذا الانقسام بأوجهه السياسية والإيديولوجية والثقافية والاجتماعية يذكر بعض المؤرخين والمحللين بالانقسامات والاستقطابات التي سادت الولايات المتحدة في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة هي على طريق حرب أهلية جديدة. ولكنه يعني أن حالة التوتر السياسي وأعمال العنف التي شهدتها البلاد في السنوات الماضية، وعدم ثقة شريحة كبيرة من الأميركيين بصدقية وفعالية مؤسساتهم الرسمية، سوف تبقى جاثمة بثقلها الكبير على صدر الجسم السياسي الأميركي في المستقبل المنظور.