لا يحتاج الوضع العراقي إلى المزيد من جلسات الحوار للتأكّد من أنّ ليس ما ينقذ البلد سوى نظام جديد لا مكان فيه لفوضى السلاح. يبدو قيام نظام جديد صعبا، بل مستحيلا في ظلّ المعادلات السائدة على الأرض، خصوصا في ضوء الاشتباكات الدامية التي وقعت أخيرا في “المنطقة الخضراء” داخل بغداد. يستحيل الوصول إلى نظام جديد من دون طرح سؤال في غاية البساطة: هل العراق لا يزال بلدا قابلا للحياة أم لا؟

الجواب لا ينقصه وضوح. لا تقوم قيامة لدولة في العالم، أيّ دولة، من دون حصر السلاح بيد القوى الشرعية، أي الجيش النظامي وقوى الأمن بفروعها المختلفة. بكلام أوضح، لا يستطيع العراق أن يعود دولة طبيعيّة قابلة للحياة بوجود جيش رديف هو “الحشد الشعبي”. ليس هذا “الحشد” سوى مجموعة ميليشيات مذهبيّة تابعة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. إنّه أداة إيرانيّة لا أكثر، لكنه وجد من يجد لها شرعيّة في العراق!

كلّ ما هو مطلوب من هذه الأداة إثبات أن العراق تابع لإيران ولا شيء آخر غير ذلك. مثل هذه التبعية العراقيّة لإيران هي الهدف الوحيد الذي حققته إدارة جورج بوش الابن التي اتخذت قرارا باحتلال العراق وتغيير النظام فيه. نفذ القرار في آذار – مارس 2003. لم تمض أيّام قليلة إلّا وكان الجيش الأميركي في بغداد حيث سقط تمثال صدّام حسين في التاسع من نيسان – أبريل من ذلك العام…

تكمن خطورة ما أقدم عليه الزعيم الشيعي مقتدى الصدر منذ الانتخابات النيابيّة في تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي في أنّه طرح فكرة استقلال العراق عن إيران. معنى ذلك العودة إلى ما قبل العام 2003. هذا لبّ الأزمة التي يعاني منها العراق حاليا. إنّها أزمة تختزل بسؤال واحد: العراق دولة مستقلّة أم لا؟ ليس في وارد “الجمهوريّة الإسلاميّة” التخلي عن العراق، خصوصا بعدما صار “الحرس الثوري” فيها ممسكا بكل مفاصل السلطة وبعدما بات كلّ إيراني يعرف أن الخروج من بغداد يعني، بالنسبة إلى “الحرس الثوري” الإيراني، الخروج من طهران أيضا.

في تسعة عشر عاما، ربطت “الجمهوريّة الإسلاميّة” مصير العراق بها وربطت مصير النظام في إيران بمستقبل العراق. من هنا، لا مصلحة لدى “الحرس الثوري” في أيّ استقرار من أيّ نوع في العراق. كل ما هو مطلوب، إيرانيّا، حصول المزيد من الفوضى في الداخل العراقي كي لا تقوم قيامة للدولة العراقيّة في يوم من الأيّام. ليس من يؤدي مثل هذه المهمّة أفضل من “الحشد الشعبي” بصفة كونه نسخة عن “الحرس الثوري” في إيران…

إذا أخذنا في الاعتبار الهوس الإيراني في بقاء العراق رهينة لدى "الجمهوريّة الإسلاميّة" مع وجود مجتمع عراقي يسعى بأكثريته الساحقة إلى الخروج من السيطرة الإيرانيّة وفساد الطبقة السياسية، نجد أنفسنا أمام برميل بارود قابل للانفجار في أيّ لحظة

في غياب القدرة على التفاهم بين مقتدى الصدر، بكلّ ما يمثله، من جهة وزعماء ميليشيات “الحشد الشعبي” وما يسمّى “الإطار التنسيقي” الذي يضمّ الأحزاب الموالية لإيران من جهة أخرى، يبدو العراق أمام احتمال واحد. هذا الاحتمال هو انفجار جديد أكبر من ذلك الذي شهدته “المنطقة الخضراء” والذي أوقفه تدخل المرجعية الشيعية في النجف ممثلة بعلي السيستاني. ليس ما يشير إلى إمكان تفادي جولة جديدة من العنف، خصوصا في ظلّ إصرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على بقاء الجيش على الحياد، علما أنّه ليس معروفا هل يفيد تدخّل الجيش أم لا. من الواضح أنّ الكاظمي متمسك بألّا تكون هناك نقطة دم على يديه.

أسّس الاحتلال الأميركي للعراق للمأساة الراهنة. لا تزال الأسئلة التي طرحت في مرحلة ما قبل بدء الحرب الأميركيّة على العراق مطروحة. على سبيل المثال، وليس الحصر، كيف يمكن بناء نظام جديد في العراق يكون نموذجا لما يُفترض أن تكون عليه المنطقة عن طريق الإتيان بالميليشيات العراقية، التي حاربت بين 1980 و1988 إلى جانب إيران، إلى بغداد على ظهر دبابة أميركيّة؟

أدّى منطق اللامنطق الذي اعتمدته الإدارات الأميركيّة المتلاحقة إلى وصول الوضع العراقي إلى ما وصل إليه. لا يختلف عاقلان على أنّ نظام صدام حسين كان مصيبة على العراق والعراقيين والمنطقة كلّها، لكن ما لا يمكن تجاهله، في المقابل، أنّ الإدارة الأميركية التي كان على رأسها بوش الابن لم تكن تعرف شيئا عن العراق وتعقيداته ولا عن إيران تحديدا. تجاهلت إدارة بوش الابن رغبة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في الانتقام من العراق والعراقيين والأطماع التاريخية لإيران في العراق. رفضت الأخذ بكل النصائح التي قدمها زعماء عرب مثل الملك عبدالله الثاني الذي حاول في آب – أغسطس 2002 تنبيه بوش الابن إلى مخاطر مغامرته العراقيّة وانعكاساتها السيئة على المنطقة. قوبل بجواب مضحك مبك من الرئيس الأميركي الذي أصرّ، في لقاء عقد في البيت الأبيض، على أنّ التخلص من صدّام حسين أتاه من السماء.

في السنة 2022، صار مصير العراق مرتبطا بمصير النظام الإيراني. ليس ما يشير إلى رغبة “الحرس الثوري” في جعل إيران دولة طبيعية من دول المنطقة تعيش بسلام وأمان مع جيرانها، وفي مقدمتهم العراق. ليس هناك ما يدعو إلى أن يكون العراق معاديا لإيران، لكنه من غير الطبيعي أن يكون العراق مجرد جرم يدور في فلك “الجمهوريّة الإسلاميّة”. تلك هي المعادلة المرفوضة إيرانيا… وهو رفض لن يقود سوى إلى المزيد من التدهور العراقي.

إذا أخذنا في الاعتبار الهوس الإيراني في بقاء العراق رهينة لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” مع وجود مجتمع عراقي يسعى بأكثريته الساحقة إلى الخروج من السيطرة الإيرانيّة وفساد الطبقة السياسية، نجد أنفسنا أمام برميل بارود قابل للانفجار في أيّ لحظة.

يعود ذلك إلى استحالة الجمع بين نقيضي الدولة المدنيّة ذات المؤسسات الحديثة من جهة ودولة الميليشيات من جهة أخرى، وهي الدولة التي تسعى إيران إلى فرضها على العراق. متى ينفجر الوضع العراقي مجددا؟ ذلك هو سؤال الساعة في وقت تبدو كلّ المخارج السياسيّة مسدودة في بلد يمتلك أهمّية استراتيجية على كل المستويات بدءا بموقعه الجغرافي وانتهاء بثرواته الطبيعية وفي مقدمتها مخزونه النفطي…