يبدو أن المصارف صارت الخاصرة الرخوة في تركيبة المنظومة، بحيث بات تحصيل الحقوق منها بالقوة والتهديد، وإن بشكل فردي، ولكن بوتيرة متسارعة، يمهد لإقفال هذا القطاع الحيوي، مع ما سوف يستدعي ذلك من شلل في تفاصيل الحياة اليومية وفوضى عارمة سوف تنسحب على قطاعات أخرى.

والأهم أن مثل هذا التطور لن يبقى في إطار المصارف، وتحديداً مع نجاح معظم المحاولات، وإنما سيتطور إلى مشهدية جديدة، لا بد أن تعيد حركة الاحتجاج في الشارع، ولكن هذه المرة بأدوات غير تلك التي سادت في تشرين الأول 2019.

والمسؤول الأول عن شريعة الغاب التي تمهد لها مثل هذه الأحداث، هو كل واحد من ديناصورات السلطة الذين حسبوا أنهم تحايلوا على الثورة ودجنوا المواطنين عبر سرقة ودائعهم وتجويعهم وإرهاقهم بالأزمات المتلاحقة، وإذلالهم في طوابير الخبز والوقود، وحرمانهم من الكهرباء، والتلويح بحرمانهم من الإنترنت، ودفع القادرين منهم على البحث عن أوطان بديلة بطرق شرعية أو بالارتماء إلى المجهول، والذين استغلوا قهر الناس في مواقف شعبوية مقرفة، والذين نفضوا أيديهم المجرمة مما ارتكبته وتمنطقوا بحزام العفة السياسية، وركبوا كل موجة ليزايدوا على معاناة من نكلوا بهم.

ولكن، ليس كل ما يتم التخطيط له يفترض أن يؤدي إلى حيث رسم أصحاب التخطيط، وعلى رأسهم الحاكم بأمره الذي، ومنذ اليوم الأول أعطى أمر العمليات بالقضاء قضاءً وحشياً على المتظاهرين الرافضين لـ «كلهن يعني كلهن».

فالضغط غير المشهود في أي من الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، وترويض الناس على القبول بكل ما يفرض عليهم، لا ديمومة لهما، ولن يؤمنا لديناصورات هذه المنظومة استمراريتهم. ولا بد سيؤديان إلى الانفجار.

وليس استيفاء الحق بالذات، وليس عبر القانون، إلا وسيلة إلزامية لمن نفدت منه خياراته. إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة.

فالآتي أعظم. ولا ريب في ذلك. فحتى لو تمت لفلفة هذه الأحداث وترقيع تداعياتها، إلا أن الاستمرار في الجريمة الممنهجة ضد المواطنين سيقلب السحر على الساحر، حتماً.

ولا يمكن تدارك «فلتان الملق»، حتى لو حاول مايسترو المنظومة ضرب رواج «عمليات تحرير الودائع»، مع ما تحمله هذه العمليات من خطر على موظفي المصارف، وعلى المواطنين في محيط هذه العمليات، وذلك بتحريك طوابير مأجورة حاضرة لتنفيذ الأعمال القذرة، التي سبق أن عايشنا نماذج منها على الرينغ وفي محيط مجلس النواب، وحيث القوات الخاصة المرتزقة لدى العهد القوي.

ويبدو أن المودعين، ومن بعدهم كل صاحب حاجة من استشفاء أو تعليم لأولادهم أو تأمين رغيف الخبز، وبعد أن فقدوا أي أمل بإجراءات تقوم بها الدولة لتوقف الانهيار وباستيفاء الحقوق عبر القانون والقضاء، قرروا اعتماد شريعة الغاب، التي لن يجد ديناصورات المنظومة وسيلة للجمها وسوف تنقلب عليهم.

وربما يكون قد فات الأوان على كذبهم ومهازلهم من خلال إقرار خطة التعافي الاقتصادي والـ «كابيتال كونترول» وما إلى ذلك من شراء للوقت بغية استكمال سرقاتهم الموصوفة للمال العام والخاص...

حتى لو غيروا قواعد اللعبة واستدعوا حرباً مع إسرائيل، وشغلوا الناس بما هو أكبر من الحاجات الحالية اليومية، لن يتمكنوا من استكمال ترويض الناس، الذين لن يجدوا من يأويهم إن هم تهجروا، لأن زرع الطائفية والعنصرية والأحقاد بين الناس، اضافة الى الفقر، أيضا سيفعل فعله.

وستأتي النتائج عكسية، لأن وسائل الاحتيال كلها بدأت تستنفد صلاحياتها، وكذلك المتاجرة بالعزة والكرامة.

ولن يكون سهلاً على المنظومة ومن يتحكم بها وديناصوراتها ضبط الفوضى، لأنهم قضوا على الدولة التي كانت تمنحهم بعض الشرعية لوجودهم، ما يعني ان الدور سيصل إلى كل شيء، وكل قطاع سيصبح خاصرة رخوة... ولن يقتصر على المصارف وحدها.