ليس من المبالغة القول، بعد النكسات الميدانية المحرجة التي منيت بها القوات الروسية في أوكرانيا منذ بداية الشهر الجاري، والتي ادت إلى انسحابها من محيط مدينة خاركيف في شمال شرق البلاد، وتعرض بعض المناطق الروسية الحدودية إلى قصف القوات الاوكرانية، وذلك بعد مرور أكثر من مئتي يوم على بداية الغزو الروسي الذي كان يفترض أن يضع أوكرانيا في الفلك الروسي، أن روسيا التي كانت تتبجح بأنها ثاني قوة عسكرية في العالم، هي في الواقع نمر من ورق، وقوة عسكرية في المرتبة الثالثة أو أدنى. وللمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثة عقود، تواجه خليفته الضعيفة روسيا الاتحادية تحديات صعبة في المحافظة على نفوذها السابق في الدول التي تحررت من قبضة الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الشرقية، بعد أن كشفت المقاومة الأوكرانية المدنية والعسكرية العنيدة وبشكل نافر محدودية القوة العسكرية الروسية وهشاشة نظامها السياسي.

الدولة التي تغطي مساحتها الجغرافية 11 منطقة زمنية، والتي يزيد عدد سكانها عن 146 مليون نسمة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان أوكرانيا، والتي كانت قبل الغزو تحتل المرتبة الحادية عشرة بين اقتصاديات العالم، تواجه انهيارات اقتصادية وربما سياسية داخلية بسبب الثمن الاقتصادي والمالي الكبير الذي ستدفعه في المستقبل القريب بعد أن تكتشف جميع أبعاد العقوبات التي فرضتها الاقتصاديات المتقدمة ضدها. قبل الغزو كانت روسيا تستورد 80 بالمئة من احتياجاتها الصناعية والتقنية، مثل المعدات المتطورة، ووسائل المواصلات، والإلكترونيات، والمواد الكيماوية والأدوية وغيرها، بينما تشكل صادراتها من المواد الأولية وخاصة النفط والغاز أكثر من 80 بالمئة من حجم اقتصادها ( إضافة إلى تصدير الأسلحة) ما يضعها عمليا في خانة الدول النامية التي تعتمد على تصدير مادة أو أكثر من المواد الخام التي تحتاجها الدول الصناعية المتقدمة. ولذلك لم يبالغ السياسيون والمحللون الأميركيون في السابق كثيرا حين وصفوا روسيا بأنها عبارة عن محطة وقود مجهزة بصواريخ عابرة للقارات.

بعد أكثر من مئتي يوم على الغزو تبدو جميع مسلمات وحسابات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خاطئة أو ستؤدي إلى نتائج عكسية. الانتصار العسكري الروسي السريع والمفترض أن يتم خلال أيام، أصبح الآن مستحيلا، لا بل يمكن القول إن روسيا قد منيت بهزيمة استراتيجية على الرغم من أن الحرب مستمرة، وليس من المرجح أن تنتهي قريبا. قبل الانتصارات العسكرية الأخيرة التي حققتها أوكرانيا كان المسؤولون في الدول الغربية الحليفة يشككون بتأكيدات الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، بأن بلاده ستخرج منتصرة من الحرب، وأنها ستحرر أراضيها المحتلة. بعد النكسات الروسية الأخيرة سيصبح من الصعب أكثر على الدول الغربية ومنها الولايات المتحدة رفض تزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة الفعاّلة، أو التفكير بالضغط على كييف للتوصل إلى حل سياسي لتفادي شتاء بارد ومظلم في أوروبا بسبب تهديدات بوتين بحرمان القارة الأوروبية من احتياجاتها من النفط الروسي.

الرهان الروسي على انهيار الدفاعات الأوكرانية وحدوث انقسامات سياسية وجهوية في البلاد فشلت وأدت إلى رد عكسي أكدته الوحدة الوطنية التي تعززت في البلاد وخاصة بعد صمود الجيش الأوكراني ووقوف حلف الناتو بقوة وراء أوكرانيا. الصمود الأوكراني أدى بدوره إلى تعزيز صمود ووحدة أوروبا في وجه الضغوط الروسية. حتى ألمانيا التي كان يعول بوتين على ميلها للحياد ورغبتها في ضمان مصادر الطاقة الروسية، سارعت بعد تردد وجيز إلى الوقوف بقوة وراء أوكرانيا، وبدأت بالبحث عن مصادر بديلة للطاقة الروسية. وإذا كان بوتين يتوقع ردا أميركيا وأوروبيا فاترا ومترددا كما كان هذا الرد على احتلال وضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، فإنه فوجئ هذه المرة برد مختلف نوعيا وبالمطلق عن الرد المحدود لإدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الذي تردد في تزويد أوكرانيا بأسلحة محض دفاعية. ووصلت قيمة المساعدات العسكرية التي قدمتها إدارة الرئيس بايدن إلى أوكرانيا خلال الأشهر السبعة الماضية إلى 15 مليار دولار.

عسكريا وميدانيا تميز أداء القوات الروسية المسلحة برداءة مفاجئة حيث اخفقت هذه القوات بتنسيق عملياتها العسكرية في أكثر من منطقة، كما اخفقت في القيام بهجمات تشارك بها مختلف القوات البرية والجوية والبحرية كما يفترض بالجيوش المتقدمة. لوجستيا كان أداء القوات الروسية فضائحيا، حيث أرسلت القيادة الروسية مواكب طويلة من الشاحنات والدبابات والعربات المسلحة في عمق الأراضي الأوكرانية من دون أن تضمن مسبقا كيفية تزويدها بالوقود والأغذية والفرق التقنية التي تضمن إصلاح هذا العتاد. المحرج لروسيا هو أنها واجهت مثل هذه المشاكل اللوجستية خلال احتلال دولة مجاورة. (في المقابل، الولايات المتحدة لم تواجه مثل هذه التحديات اللوجستية حتى عندما غزت دولا تبعد عنها آلاف الأميال مثل أفغانستان والعراق). وبينما تميز أداء القوات الأوكرانية بالمعنويات العالية لأن هذه القوات تدافع عن وطنها، تميز أداء القوات الروسية الغازية بمعنويات متدنية، خاصة وأن القيادة الروسية ضللت بالجنود الروس عندما ادعت بأن الأوكرانيين سيستقبلونهم كمحررين جاءوا لتخليصهم من "الطغمة النازية" التي تحكمهم.

صور الدبابات والعربات المسلحة الروسية المدمرة، أو المتروكة في الميدان في المناطق الأوكرانية المحررة هو أبلغ دليل على انهيار معنويات القوات الروسية التي انسحبت وتخلت عن مواقعها من دون قتال وتركت وراءها معداتها العسكرية التي سارع الأوكرانيون إلى استخدامها ضد أصحابها السابقين. ومرة أخرى تركت القوات الروسية وراءها المقابر الجماعية للمدنيين والأسرى العسكريين الأوكرانيين بعد التنكيل الجسدي بهم قبل تصفيتهم. وفي الأسابيع الماضية أكدت تقارير صحفية عديدة أن روسيا تستخدم مختلف أنواع جماعات المرتزقة مع قواتها في أوكرانيا، مثل أولئك الذين ينتمون إلى تنظيم "فاغنر" الروسي الذي قاتلت عناصره في سوريا وليبيا، إضافة إلى مرتزقة من سوريا، ومقاتلين من الشيشان. وأخيرا تم الكشف عن استخدام سجناء في السجون الروسية للقتال في أوكرانيا بعد العفو عنهم. مثل هذا المزيج الهجين من القوات لا يمكن أن يفرض احتلالا عسكريا دائما في وجه مقاومة وطنية شرعية تحظى بدعم شعبي في الداخل وتأييد عالمي مادي وسياسي وعسكري. في الأسابيع الماضية بدت روسيا بالفعل وكأنها دولة أوتوقراطية نامية. هذه الدولة التي لعبت دورا رئيسيا في هزيمة ألمانيا النازية، وجدت نفسها تطلب من إيران تزويدها بالمسيرات، ومن كوريا الشمالية بيعها ذخائر المدفعية، لأنها لم تعد قادرة على إنتاج هذه الأسلحة بسرعة لأسباب عديدة من بينها العقوبات الغربية التي حرمت روسيا من بعض المواد ورقائق الكمبيوتر الضرورية لتصنيعها.

استخدام الرئيس بوتين لهذه القوات يعكس تردده في اللجوء إلى فرض تعبئة عامة تسمح له بإرسال أكثر من مئة ألف مجند للمشاركة في القتال في أوكرانيا. مثل هذه التعبئة العامة ستنسف ادعائه بأن ما يجري في أوكرانيا هو "عملية عسكرية خاصة" وليست حربا نظامية واسعة النطاق. نظريا أمام بوتين خيارات عديدة، بدءا من فرض التعبئة العامة، وانتهاء باستخدام أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة الكيماوية وحتى القنابل النووية التكتيكية المحدودة. ولكن ما هو متوفر نظريا لا يعني أنه يمكن أن يترجم عمليا. جميع خيارات بوتين في أوكرانيا أحلاها مرّ. وحتى ولو أعلن التعبئة العامة، فإنه لا يملك المعدات العسكرية الضرورية لهذه القوات، كما أنه لا يستطيع رمي هذه القوات في الميدان قبل ستة أشهر على الأقل وهي الفترة الضرورية لتنظيمها وتدريبها. إذا توفرت المعدات الضرورية لها. استخدام أسلحة الدمار الشامل سيفرض على الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي اتخاذ إجراءات تصعيدية لمعاقبة روسيا تشمل توفير أسلحة نوعية وهجومية لأوكرانيا وإعلان روسيا دولة مارقة وإرهابية. كما أن أصدقاء وحلفاء روسيا مثل الصين والهند وغيرها سيرفضون مثل هذا التصعيد الروسي وسيبعدون أنفسهم عن موسكو.

يمكن القول إن شهر سبتمبر- أيلول الجاري هو أقسى الشهور لبوتين وروسيا منذ بداية غزو أوكرانيا. وإضافة إلى النكسات العسكرية المكلفة، مني بوتين شخصيا بنكسات محرجة وعلنية في الأيام الماضية. وخلال القمة الأسيوية التي انعقدت في أوزباكستان وجد بوتين نفسه يتعرض لانتقاد علني من رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، الذي قال لبوتين في بداية لقائهما " هذه ليست حقبة حرب" وتابع " اليوم ستتوفر لنا الفرصة لمناقشة كيفية تقدمنا على طريق السلام"، وأشار مودي إلى أنه أبلغ بوتين بهذا الموقف خلال مكالماتهما الهاتفية. جاء ذلك بعد يوم من اعتراف بوتين بأن نظيره الصيني، شي جينغ بينغ، أعرب له خلال لقائهما عن "قلقه وتساؤلاته" حول الحرب في أوكرانيا.

تزامن هذا النقد الضمني ولكن القوي من أهم الدول الكبيرة التي وقفت عمليا مع روسيا وساعدتها عبر شراء منتجاتها من النفط والغاز على تمويل غزو أوكرانيا، تزامن مع هزيمة القوات الروسية في محيط مدينة خاركيف ، ليكشف مدى عزلة بوتين وعمق المأزق الذي تواجهه روسيا حاليا. حتى الآن ردود فعل بوتين على هذه النكسات كانت في تكثيف الهجمات الصاروخية الانتقامية ضد المدن والبلدات الأوكرانية وقتل المزيد من المدنيين الأوكرانيين . ولكن اللافت في المؤتمر الصحفي الذي عقده بوتين، الجمعة الماضية، بعد انتهاء المؤتمر هو أنه قال إنه مستعد لمحادثات مع أوكرانيا من دون أن يكرر شروطه التعجيزية مثل جعل أوكرانيا أرضا منزوعة من السلاح، كما لم يتحدث عن التخلص من قيادتها "النازية"، ومدعيا – بعكس تأكيداته العلنية حين غزا أوكرانيا - بأن "الهدف الرئيسي" للغزو كان للسيطرة على إقليم دونباس في شرق البلاد. تصريحات بوتين هي اعتراف ضمني بأنه لا يستطيع تجاهل انتقادات دول هامة مثل الهند والصين.

بعد سبعة أشهر على غزو أوكرانيا، ازداد حلف الأطلسي قوة واتسعت رقعته الجغرافية بعد انضمام السويد وفنلندا إليه، وبعد اقتراب أوكرانيا (ومولدوفا) أكثر من أوروبا والحلف الأطلسي، وهي خطوات كان يرفضها بوتين. الغزو الروسي لأوكرانيا وسحب مئات الجنود الروس من أرمينيا، أضعف من نفوذ موسكو في القوقاز وفي التدخل لوقف القتال بين أرمينيا وأذربيجان، التي عززت من تحالفها مع تركيا. المأزق الروسي في أوكرانيا، أظهر أكثر من أي وقت سابق نفوذ الصين في آسيا الوسطى، وهو نفوذ يأتي على حساب نفوذ موسكو التقليدي في تلك المنطقة. وكما أن الغزو الروسي لأوكرانيا أظهر مدى عزلة روسيا عن العالم الغربي وضعفها في مواجهة اقتصاديات الغرب القوية، فإن الغزو رسّخ أيضا حقيقة جيوسياسية آسيوية هامة، وهي أن روسيا أصبحت الشريك الضعيف للصين. خلال القرن العشرين كانت روسيا تنظر إلى الصين كدولة آسيوية فقيرة. وبعد وقوع الصين تحت سيطرة النظام الشيوعي، تحولت إلى الشريك الثاني والضعيف للاتحاد السوفياتي إلى أن انفجر النزاع المسلح والسياسي والإيديولوجي بين البلدين في نهاية ستينات القرن الماضي. ولكن خلال العقود الماضية انقلبت الطاولة وأصبحت الصين دولة صناعية وتقنية متقدمة وحققت نفوذا دوليا أكبر بكثير من نفوذ روسيا. روسيا والصين تلتقيان على ضرورة مواجهة النفوذ الأميركي السياسي والاقتصادي في العالم ويتعاونان مع بعضهما البعض في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة. وخلال حقبة بوتين، ازدادت روسيا اعتمادا على الصين اقتصاديا التي تصدر إليها منتجاتها من النفط والغاز، وتستورد منها مختلف أنواع البضائع. الاتفاقيات التجارية بين البلدين تبين أن الصين هي الطرف الأقوى، وأن روسيا عمليا قد قبلت بأن الصين قد أصبحت شريكتها الكبرى والدولة التي تحتاجها روسيا لتفادي تحولها إلى دولة معزولة ومهمشة أكثر مما هي الآن.
هذه هي الأرض اليباب التي قاد بوتين روسيا إليها.